بعد مرور حوالي سنة على ظهور كتاب الأستاذ فريد الأنصاري حول الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، وبعد هدوء العاصفة التي صاحبت صدور الكتاب، آن الأوان للعودة إلى تمحيص القضايا المرتبطة بالموضوع سواء على مستوى تاريخ الأحداث أو على مستوى التصورات التي تحكم مسارات العمل الإسلامي المغربي.
ما يدفعنا إلى العودة إلى الموضوع ليس هو مضمون الكتاب في حد ذاته بقدر ما يهمنا منه هو الحدث الذي انبثق عن إصدار الكتاب بوصفه تكثيفا لجملة من القضايا النظرية والعملية المرتبطة بجوهر التجربة الحركية الإسلامية.
هذا الحدث الذي صنعه كتاب الأنصاري والنقاشات التي أثارها ولا يزال يثيرها بطرق مباشرة أو غير مباشرة هو حدث أنصاري بامتياز لكون الكتاب أسس للحظة لا يمكن القفز عليها أثناء التأريخ للتجربة الحركية الإسلامية في المغرب عموما وحركة التوحيد والإصلاح خصوصا لما تضمنه الكتاب من نقد لاذع لتجربتها ولعلاقة الكاتب نفسه بهذه الحركة التي احتل مناصب قيادية ضمن هرمها التنظيمي[2]، ولكون الكاتب هو ملهم جل فصول هذا الحدث، سواء ما تعلق منها بقضية وحدة العمل الإسلامي أو ما تعلق منها بعلاقة الروحي التربوي بالسياسي، أو بحدود نجاح علاقة المثقف الشرعي بالتجربة الحركية عموما، مما يسمح لنا أن نلقب هذا الحدث بـ”الحدث الأنصاري”.
إن التحدي الذي يواجهنا في التعامل مع هذا الحدث هو كيف نتجاوز اللحظة الانفعالية التي صنعها الكتاب/الحدث ونؤسس للحظة نقدية تساعدنا في استنباط دلالات الحدث فنجعل من النقد أداة فهمٍ للحدث لا تجريحاً لشخوصه؟
البعض فهم التجاوز بمعنى إغلاق النقاش/الفتنة في الموضوع بعد أن شاع حصول تصالح بين الكاتب والحركة التي تصور الكثير أنها هي المعنية بجبر الضرر الناتج عن الحادث لما تضمنه من تجريح لتجربتها وشخوصها. الموضوع في نظرنا هو أكبر من تجريح لهيئة معينة لكون الكتاب لم يكن تجريحا أو نقدا لحركة محددة وإنما لمجمل التيارات الإسلامية في المغرب من جهة، ولكون الحدث هو إفراز لإشكالات حقيقية تعيشها التجربة الدعوية في المغرب.
انطلاقا من الملاحظات السابقة سيكون تعاملنا مع هذا الحدث على أساس اعتباره حدثا مكثفا لأسئلة ثلاث:
1) ما هي عوائق توحيد الصف الدعوي الإسلامي رغم وحدة المرجعية وقداسة مبدأ الوحدة؟
2) أين يكمن جوهر الاختلاف بين مكونات الصف الإسلامي؟
3) ما الذي يمنح اللحظة الأنصارية خصوصيتها في علاقتها بالسؤالين السالفين؟
بالطبع هذه الأسئلة وأجوبتها لن تستنفذ جوهر النقاش والقضايا التي طرحها الحدث الأنصاري، بل إن مقالنا يستوحي إشكالاته في حدود تجربة حركة التوحيد والإصلاح وبعضٍ من مظاهر تجربة جماعة العدل والإحسان في علاقتها بالموضوع الذي فجره الحدث، سعيا نحو استكناه بعضٍ من خصائص هذه التجربة الحركية ومعوقات توحيد فصائلها.
سعيا للإجابة على الأسئلة السالفة نقترح الخطاطة التالية لمعالجة القضايا التي فجرها هذا الحدث:
1) حول صعوبة توحيد الصف الحركي الإسلامي
1-1) اختلاف بيئات العمل الأصلية لمكونات حركة التوحيد والإصلاح
1-2) عقدة الزعامة والمشيخة
1-3) اختلال معايير تقويم القضايا والحكم عليها
2) في العلاقة بين التجربتين التوحيدية والعدلية
2-1) تباين المرجعيات التاريخية
2-2) تباين المسلكيات السياسية
3) حول تمثلات الإسلاميين للتجربة الصوفية
4) حول علاقة “الشاعر العالم” بالتنظيمات
5) خاتمة
1) حول صعوبة توحيد الصف الحركي الإسلامي
بعد فترة قصيرة من الإعلان عن الوحدة الاندماجية بين رابطة المستقبل الإسلامي[3] وحركة الإصلاح والتجديد في إطار جديد هو حركة التوحيد والإصلاح، عرف هذا المولود الوحدوي الجديد حالات انسحاب أو تجميد للعضوية من طرف عدد لا يستهان به من الواردين إليه من رابطة المستقبل الإسلامي خصوصا من قدماء جماعة الدعوة التي هي أحد أهم مكونات رابطة المستقبل الإسلامي.
ما إن زال سحر اللحظة التوحيدية وجاذبيتها بعد الانغماس في تدبير الشأن الحركي اليومي حتى تبين للجميع أن الوحدة التنظيمية ووحدة المرجعية وقداسة مبدأ الوحدة، غير كافية لتجاوز التاريخ الذاتي لكل جماعة بحقائقه وأوهامه.
إن مدارسة حالة الأنصاري في علاقتها بموضوع الوحدة قد تساعدنا في فهم بعض عوائق توحيد الصف الحركي الإسلامي.
لقد تعامل الأنصاري بحماس كبير مع موضوع الوحدة الاندماجية وليس بمضض كما توحي بذلك بعض الكتابات الصحفية[4]. ويشهد لحماس الأنصاري ما ورد في العمود الذي نشر بتوقيعه آنذاك بجريدة التجديد حول المتخلفين عن هذه الوحدة والذي كان صداه سيئا لدى جماعة فاس التي لم تلتحق مجموعة من قيادتها بالمشروع الوحدوي. المضض لم ينشأ مع الوحدة أو منها، وإنما هو وليد مجموعة من العوامل منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، والتي يمكن إجمالها في ما يلي:
1-1) اختلاف بيئات العمل الأصلية لمكونات حركة التوحيد والإصلاح
يبدو أن اختلاف بيئات العمل الأصلية لمكونات حركة التوحيد والإصلاح بين جماعة الدعوة إحدى أهم مكونات رابطة المستقبل الإسلامي التي ينحدر منها الأنصاري وبيئة الإصلاح والتجديد ساهم بشكل كبير في عدم التجانس بين هذه المكونات.
يغلب على جماعة الدعوة الطابع الثقافي التربوي، حيث هي أقرب إلى جمعية ثقافية منها إلى تنظيم حركي مع حضور مكثف لرؤية تربوية سلفية. السلفية التي نتحدث عنها هنا تتعلق بمنهج تربوي ورؤية للدين تحيل على النص الديني الأصلي (الكتاب والسنة) ومجموع تأويلات السلف الصالح باختلاف مشاربه الحنبلية والأشعرية، مع سعي واضح للتمايز عن التجربة الصوفية.
ما يميز تجربة حركة الإصلاح والتجديد هو كونها أقرب إلى الأجواء الحركية والنضالية، لذا نرى قياداتها الفكرية والحركية أكثر تفاعلا مع مختلف تجارب العمل الحركي الإسلامي عموما وبالأخص منها ذات المسار التجديدي والسياسي. أما على المستوى التربوي فإنها لا تختلف عن تجربة جماعة الدعوة إلا في حجم حضور هذا المستوى داخل بنيات الحركة.
إن اختلاف البيئات مع هيمنة المكون الحركي على الجسم الوحدوي الجديد ستشعر الأنصاري ومن يقاسمه نفس التاريخ التنظيمي بغربة ضمن الأجواء الحركية التي لم يتعودوا على ديناميكيتها السريعة ولا على أجوائها التدافعية القوية. هذه الغربة وقلقها ستقوي الحنين إلى الماضي التنظيمي وترسم صورة مثالية عنه.
وبالمناسبة نشير إلى أن المنطق الحركي وآليات اشتغاله التي كان يتشبع به آنذاك المكون التبيني (نسبة إلى جماعة التبين إحدى مكونات رابطة المستقبل الإسلامي) كان مصدر إزعاج دائم داخل الرابطة نفسها. وقد كان لحضور الأستاذ أحمد الريسوني بشخصيته التوفيقية دور أساسي في ترطيب الأجواء ومنع انفجار تنظيم رابطة المستقبل في عدة محطات. وأظن أن المشروع الوحدوي الذي جسدته محطة حركة التوحيد والإصلاح كان إنقاذا للرابطة من الانفجار الذي كان يتهددها أو بالأحرى تأجيلا له إلى حين استكمال شروطه. وسيجد في فضاء حركة التوحيد والإصلاح فرصته التاريخية بامتياز لإشعال فتيله.
خلاصة القول بخصوص هذا الأمر، إن التاريخ الذاتي لكل جماعة شكل عمق هويتها وعقيدتها في النظر والعمل، إلى الحد الذي غدا فيه هذا التاريخ بمثابة قفص يصعب على صانعيه مغادرته نتيجة تعاملهم النرجسي مع هذا التاريخ. لذا لا يمكن انتظار الكثير من دعوات توحيد فصائل العمل الإسلامي ما لم تتخلص كل جماعة من توثين تاريخها الذاتي
1-2) عقدة الزعامة والمشيخة
إن عقدة الزعامة والمشيخة من القضايا العويصة في العمل الإسلامي سواء على المستوى التصوري أو المستوى العملي. فصورة الزعيم/الشيخ في مخيال الكثير من الإسلاميين تغذيها صورة الشيخ المربي الصوفي من جهة وصورة العالم بالشرع بجانب صورة القائد السياسي أو العسكري من جهة أخرى. هذه الصورة المركبة للزعيم تتشابك فيها الصور ولا تلغي صورة الصور الأخرى وإنما لكل لحظة تاريخية صورتها التي تطفو على السطح وتبقى الصور الأخرى على الهامش تنتظر لحظة الاستدعاء. وتشكل هذه الصورة المخيالية للزعيم/الشيخ جزءا أساسيا من هوية التنظيمات وتاريخها. من هنا نفهم أزمة التنظيمات لحظة فقدانها لزعاماتها المؤسسة حيث يتحول أفرادها إلى عبارة عن أيتام بلا كفيل.
إن اللحظة التي يؤرخ لها الحدث الأنصاري هي إحدى تجليات هذه العقدة. فصفة الزعامة المسلّم بها لعبد الإله بنكيران[5] من طرف الكثير من المنحدرين من الإصلاح والتجديد ستجابه بالرفض من طرف بعض القادمين من الرابطة. لم يكن الرفض يستهدف مبدأ الزعامة بقدر ما كان يستهدف الصورة التي أصبح عليها هذا المبدأ في ظل الزعامة البنكيرانية (نسبة إلى بنكيران) بطابعها البراغماتي. وهو أيضا رفض يستبطن حنينا (نوستالجيا) إلى نوع من الزعامة الكاريزمية تستقي مثالها من التجربة السابقة ضمن الرابطة التي تجتمع فيها صورة العالم بالشرع واللغة مع الشيخ المربي.
سينشأ عن هذا التباين في المواقف عقدة يمكن نعتها بـ”عقدة بنكيران” التي ستغذيها جملة من التصريحات والمواقف التي اتخذها هذا الأخير بخصوص الشأن السياسي للبلاد. إن مجموع هذه المواقف والتصريحات ستمنح المشككين في إمكانية نجاح التجربة التوحيدية أو الساعين لإفشالها المبررات الكافية للقيام بذلك. ويجدر بالإشارة في هذا الصدد أن الكثير من النقاشات الدائرة آنذاك في الصحافة أو في بعض المواقع الالكترونية حول كتاب الأخطاء الستة للحركة الإسلامية وكذلك بعض ما ورد في الكتاب نفسه، هي تصفية ولو متأخرة لبعض مستحقات الحساب مع عبد الإله بنكيران.
1-3) اختلال معايير تقويم القضايا والحكم عليها
إن شخصنة القضايا حين الربط بين صلاح أو فساد قضية ما بصلاح أو فساد حامليها، يساهم في إفساد النظر لمجموعة من القضايا وخير مثال على ذلك السياقات التي تم فيها نقاش موضوع التضخم السياسي.
فمسألة التضخم السياسي التي جرى تداولها أثناء حدث الكتاب هي في نظرنا موقف تبريري بعدي لردود أفعال عن الغربة التي عاشها الكاتب ضمن الأجواء التدافعية لحركة التوحيد والإصلاح. الغربة وقلقها سيأخذ عند الأنصاري بعدا إيجابيا من خلال البحث عن بدائل تقيه حر هذا القلق من خلال تأثيم الخيار السياسي وتزكية المسار الروحاني الذي سيبلغ غايته بالاندماج في الروحانيات النورسية. هذا لا يعني أن فريد الأنصاري كان يتبنى الخيار السياسي ثم انقلب عليه بقدر ما يعني أن تضخم حجم حساسيته من الخيار السياسي هي في إحدى أهم جوانبها وليدة فشل تدبير العلاقة بين الشاعر القادم من الجنوب (الأنصاري) والمناضل القادم من الرباط/فاس (بنكيران)، وفي جانب آخر وليدة غياب فضاءات النقاش المعرفي النظري داخل التنظيمات التي يمكن أن يساهم حضورها في إفراغ الاختلافات من شحنتها العاطفية لتأخذ بعدها المعرفي وذلك بالفصل بين ما يدخل ضمن تباين الرؤى وما يمكن تصنيفه ضمن اختلاف الأمزجة. إن غياب فضاءات النقاش المعرفي النظري هو ليس وليد الكفر بالعمل النظري ولا تبخيسا له بقدر ما هو مرتبط بطبيعة التنظيمات الحركية والسياسية عموما التي غدت نتيجة ارتفاع وتيرة الاشتغال اليومي فيها أساسا فضاءات لتدبير العمل اليومي، الأمر الذي لا يسمح لها بترسيخ فضاءات النقاش النظري، مما يحتم في نظرنا خلق فضاءات موازية خاصة بتدبير الجانب المعرفي والنظري في علاقته بهذا اليومي وتأطيرا له.
من الأمور التي تساهم في خلخلة معايير تقويم القضايا أو الحكم عليها وتوتير الأوضاع ضمن المشهد الإسلامي هو الطريقة التي يجري بها توظيف الدين في تدبير العلاقات بين أفراد الجماعة أنفسهم، وبين هؤلاء ومن هم خارج دائرة الجماعة. ذلك أن الدين أو بالأحرى صيغة الوعي به، تلعب دورا مزدوجا وفي بعض الأحيان متناقضا في تدبير هذه العلاقات، فبقدر ما يساهم الدين في توطيد أواصر الأخوة والتفاهم بين أفراد الجماعة بما يزرعه من قيم الرحمة والتسامح، يساهم أيضا وبشكل معاكس في تعميق الخلاف نتيحة نزوع البعض إلى منح آرائهم نوعا من الإطلاقية، خلطا منهم بين المطلق الديني ونسبية تمثله والوعي به.
إن هذه العوامل المرتبطة بتحولات بيئات الاشتغال الدعوي والصراع المستدام مع عبد الإله بنكيران زيادة على زوال “سحر الوحدة” لحظة انغماس فريد الأنصاري الشاعر الصوفي في تدبير الشأن الحركي اليومي ولاسيما الطلابي منه سيدفع فريد الأنصاري إلى الانسحاب التدريجي من حركة التوحيد والإصلاح إلى حين صدور كتابه السالف الذكر الذي كان بمثابة الإعلان الرسمي على القطيعة النهائية مع هذه الحركة وتبرؤا من مسارات الحركة الإسلامية عموما. ويبدو أن كتاباته السابقة على الأخطاء الستة من مثل كتاب التضخم السياسي والبيان الدعوي لم تكن كافية لإقناعه بوضوح قطيعته مع التجربة الحركية لانحصارها في البعد المعرفي فكان لابد من بيان لإعلان القطيعة الوجدانية معها. من هنا قد نفهم سر الجرعة الانفعالية الزائدة في الكتاب.
لقد أثبتت تجربة حركة التوحيد والإصلاح قصور أسلوب الوحدة الاندماجية بين مكونات الساحة الإسلامية رغم تقاربها على مستوى المرجعيات التاريخية والمواقف السياسية، بل كانت نتائجها عكسية من حيث توسيع الهوة بين الفرقاء كما هو واضح من خلال نموذج الأنصاري. إذا كانت هذه حال فرقاءٍ متقاربي المرجعيات التاريخية والمواقف السياسية، فكيف هي حال العلاقة بين من تباينت مرجعياتهم ومسلكياتهم السياسية؟
2) في العلاقة بين التجربتين التوحيدية والعدلية
ضمن تجليات “الحدث الأنصاري” حضور موضوع العلاقة بين حركة التوحيد والإصلاح وجماعة العدل والإحسان، من خلال بعض النقاشات الدائرة آنذاك. هذا الموضوع مثال آخر على عمق الاختلاف الفكري والسياسي بين مكونات الساحة الدعوية على مستوى القطر الواحد. جذور هذا الاختلاف بعضها موروث من بقايا خلافات المدارس الإسلامية داخل الدائرة السنية، وبعضها وليد التباين في تقييم الواقع الحالي وأسلوب التعامل معه.
2-1) تباين المرجعيات التاريخية
بنت حركة التوحيد والإصلاح ومن ثم أصولها التي انبثقت منها (سواء رابطة المستقبل الإسلامي أو الإصلاح والتجديد) بنت منهجها أو طريقة عملها على استلهام التجربة الإخوانية المصرية النشأة وعموم المدرسة السلفية بالمعنى الذي أشرنا له سالفا. وما يبدو من تعثرات وتوترات في هذه التجربة الحركية هو في بعضه وليد التنازع بين السياقين المغربي والمشرقي ومقتضيات تباينهما.
فتجربة جماعة العدل والإحسان امتداد للتجربة الطرقية المحلية مع محاولة استحضار البعد السياسي الحركي من خلال إعادة تأويل التجربة الإخوانية. إعادة التأويل تتم عبر التذكير ببدايات حسن البنا قبل تأسيسه لحركة الإخوان المسلمين وما يروى عن قناعاته الأخيرة قبل اغتياله[6] نتيجة حالة التمرد التي عرفها التنظيم الخاص. التجربة العدلية هي استحضار شبه كلي للتجربة الصوفية في آخر تجلياتها التي دمجت بين التصوف السلوكي والكثير من مكونات التصوف الفلسفي. وهذا ما يفسر بعضاً من الحملة السلفية العنيفة على الجماعة وشيخها.
يجدر بالذكر أن الحضور السياسي للتصوف ليس خاصية عدلية وإنما صيغة الحضور هي التي تختلف عن مثيلاتها في العالم الإسلامي². فالتجربة الآسيوية مثلا (خصوصا الباكستانية والأفغانية بل حتى بعض جوانب التجربة التركية) تستحضر البعدين السياسي والصوفي مع فصل بين الممارستين، بينما التجربة العدلية تسعى للدمج بين البعدين مع نفس ثوري عكس التجارب الأخرى ذات المنحى اليميني والمحافظ عموما[7]. فرادة التجربة العدلية هي في محاولتها الدمج بين عناصر متنافرة على الأقل ظاهريا عبر صياغة إيديولوجية متميزة من طرف الشيخ المؤسس عبد السلام ياسين. ولعل اختيار لفظة الجماعة بدل مفردة الحركة هو نوع من الوعي بالفرادة وتعميق له في نفس الوقت.
إن محاولة الخلط بين التجربة التوحيدية والتجربة العدلية واعتبار نشأة بعضها كرد فعل على الأخرى ناتج عن عدم الوعي باختلاف السياقين الإخواني السلفي والطرقي الصوفي[8]. هاتان التجربتان تتعايشان وتتصارعان وكأنهما تنتميان إلى مجرتين معرفيتين مختلفتين. هذا التباين هو في جزء منه امتداد للانفصام التاريخي بين التجربة الصوفية والتجربة السلفية والفقهية عموما، بحيث يمكن اعتبار تراث المدرستين السلفية الفقهية والصوفية وخلافاتها بمثابة بنية تحتية تتأسس عليها مواقف كلا التيارين الصوفي والحركي السائدين ضمن الساحة الإسلامية الحديثة، سواء في علاقاتهما البينية أو في علاقتهما بالواقع.
2-2) تباين المسلكيات السياسية
هذا التباين في المرجعيات التاريخية ينميه اختلاف المسلكيات السياسية لكلتا الجماعتين.
فإذا كانت حركة التوحيد والإصلاح قد اختارت نهج القبول بشرعية المؤسسات القائمة وسعت من خلال ذلك إلى البحث عن موقع لها ضمن هذه المؤسسات عبر جناحها السياسي، فإن جماعة العدل والإحسان اختارت نهج التشكيك في مصداقية المؤسسات القائمة.
هذا الاختلاف على مستوى المسلكيات السياسية هو في جزء منه صيغة معاصرة لتباين مواقف الفقهاء والطهوريين من محدثين ومتصوفة من الأمر الواقع، حيث كان الفقهاء أقرب إلى التعامل الإيجابي مع الواقع السياسي من خلال البحث عن صيغ فقهية لتأطير الجماعة المؤمنة بما يضمن وحدتها من جهة ويمنع تفلتها من قبضة أحكام الشريعة من جهة ثانية، بينما غلب على غيرهم الرفض للأمر الواقع عبر الإحالة إلى نماذج مثالية من خلفاء راشدين وأولياء صالحين والانكفاء إما في زوايا وتكايا تسمح بالتخلص من ضغط الواقع، أو القيام بعمليات شبه انتحارية ضد المجتمع ومؤسساته.
سيؤدي اختلاف المرجعيات والمسلكيات في صيغته التي أشرنا إليها سالفا الى فشل كل محاولات التعاون أو التنسيق بين التنظيمين، مما ولد اقتناعا لدى الطرفين بعبثية السعي للتنسيق. وإذا ما طرحت فكرة التنسيق في لحظة ما (كمثل المحطات التعبوية المرتبطة بالقضية الفلسطينية مثلا)، فهي عادة ما تدخل ضمن منطق إبراء الذمة من طرف طالب التنسيق للاقتناع المسبق باستحالة ذلك.
3) حول تمثلات الإسلاميين للبعد الروحي من الإسلام
من القضايا التي أثارها الحدث الأنصاري هو مسألة التضخم السياسي الذي هو في الحقيقة تعبير عن حيرة الإسلاميين في تدبير الشأن الروحي مقابل الصوفية الذين حسموا أمرهم بجعله محور الممارسة والوعي الديني. الإسلاميون يعيشون بين ضغط النموذج الصوفي المهيمن في المخيال الديني وضغط الواقع وإغراءاته. الحسم الصوفي بسيط في حد ذاته حيث يعيش المنتسب إليهم حياته اليومية كغيره من الناس وحياته الروحية من خلال تأطير مكثف من خلال الأوراد اليومية وداخل فضاءات الزوايا ضمن مواعيد راتبة حيث يعيش أجواء مستقلة عن اليومي. لقد جعلت الزوايا من اليومي خارج مجال اهتمامها مما أراحها من تبعاته. بينما الحركات الإسلامية نتيجة سعيها الشمولي وضعت نفسها في مأزق لا تحسد عليه، مما جعلها تعيش حالة ارتباك نتيجة الخوف من المنزلقين الباطني والسياسي.
هنا أيضا يسعفنا نموذج الأنصاري في تبين بعض مظاهر هذه العلاقة مع البعد الروحي في التجربة الإسلامية الحديثة.
لقد أول كثير من الناس تركيز الأستاذ فريد الأنصاري على الأبعاد الروحية سواء في كتاباته أو في دروسه الدينية ولاسيما ما تعلق منها بشرح منازل السائرين للإمام الهروي على أنه نزوع صوفي خصوصا وأنه ارتبط بإضافة لقب “الشيخ” للأنصاري. بل لقد أولت بعض الكتابات قطيعة الأنصاري مع حركة التوحيد والإصلاح ونقده لما اعتبره تضخما سياسيا لديها وعودته إلى التركيز على هذه الأبعاد الروحية والأخلاقية في دروسه وكتاباته على أنه نوع من التصالح بينه وبين جماعة العدل والإحسان. ويبدو أن المسار الذي أخذه النقاش حول كتاب الأخطاء الستة أوحى أن موضوعه هو نقد خاص لتجربة حركة التوحيد والإصلاح الدعوية.
فيما يخص جماعة العدل والإحسان، فإن الأنصاري هاجم بنفس الحدة هذه الجماعة في الكتاب نفسه. إن كون جماعة العدل والإحسان اختارت عدم الدخول في هذا السجال، كما أن طبيعة “الغزل” المتبادل بين عبد العالي مسؤول أحد قيادات العدل والإحسان في رسالته الموجهة إلى الأنصاري، ورد هذا الأخير عليه عبر موقع الشهاب، أوقع الكثير في وهم الانسجام بين تصور الطرفين للبعد الصوفي.
ما يهمنا من هذا الأمر ليس موضوع المصالحة بقدر ما يهمنا هو فهم حدود تفاعل المشهد الحركي الإسلامي المغربي مع التجربة الصوفية في علاقته الطردية مع العمل السياسي.
يمثل موقف كل من فريد الأنصاري وجماعة العدل والإحسان من التصوف أقصى حدود هذا التفاعل.
فتصوف جماعة العدل والإحسان هو استمداد لتصوف طرقي ذو نزعة أقرب إلى “الباطنية السنية”[9]. هذا النزوع الباطني يتجلى في المكانة الخاصة التي يتبوؤها الشيخ ضمن التنظيم من جهة، وموقع الرؤى في تشكيل مصادر الرؤية المعرفية للجماعة. ومن هنا نفهم سر انسحاب المرحوم محمد البشيري أحد أبرز قيادات الجماعة بعد عودة الشيخ عبد السلام ياسين لتجذير البعد الصوفي. ما كان للسلفي (البشيري) أن يتأقلم مع الأجواء الباطنية التي عادت لتؤثث بقوة المشهد العدلي من جديد. فالأبعاد الثورية لم تعد كافية بالنسبة له للسكوت عن ما يعتبره “انحرافات عقدية” ضمن هذا المسار.
بينما نزعة الأنصاري الصوفية هي امتداد لتصوف سلفي أسس له عبد الله بن المبارك في زهدياته وابن القيم الجوزية في كتاباته الروحية ولاسيما مدارج السالكين، التي هي شرح لنفس المتن الذي يقوم الأنصاري في زماننا هذا بشرح مقاماته. هذا النوع من التصوف يفضل السلفيون نعته بالرقائق تمييزا له عن التصوف الطرقي الذي نحا باطنيا. وتصوف الأنصاري أو بالأحرى رقائقه هي أيضا استلهام للنورسية التي وجد فيها فرصة لإحياء روحانيات مستقلة عن التجربة الصوفية وحضورا متميزا للبعد الاجتماعي لا يمكنه التخلي عنه نتيجة بعض متعلقات تاريخه الحركي.
إن تصوف الأنصاري يختلف عن تصوف العدل والإحسان شكلا ومتنا. حتى المشيخة التي يتحدث عنها ويسعى لتأسيسها هي بالأساس مشيخة علمية تختلف عن التجلي الصوفي لها. الشيخ الصوفي هو أقرب للنبي في تلقيه للتكليف بإرشاد الناس إلى الله. فإذا كان النبي يتلقى مهمة التكليف بإرشاد الخلق إلى الخالق مباشرة من الله أو عبر الملك جبريل، فإن الشيخ الصوفي يتلقى الأمر بالقيام بهذه المهمة حسب الميثولوجيا الصوفية من النبي عبر رؤى يمكن أن يراها الشيخ أو تُرى له نوما أو يقظة.
المشيخة التي يؤسس لها الأنصاري تختلف أساسا عن التجربة الصوفية في رفضها القاطع لتأسيس معرفة دينية استنادا إلى مصادر خارجة عن ما حدده علماء الأصول من مصادر شرعية. وهو في هذه المسألة وفي لروح التجربة السنية التي بنت شرعية مشيختها على مقاييس العلم الديني منذ تأسيس الإمام الشافعي لمعايير الاجتهاد الشرعي، مع بعض الإضافات بالطبع. هذه الإضافة تأخذ من التجربة الصوفية نوعا من هالتها دون الالتزام بمتعلقاتها العقدية وتأخذ من الكاريزمية السياسية قدرتها التعبوية ولكن من خلال شرعية تمتاح من علاقتها بالعلم الشرعي، عكس الكاريزما السياسية التي تستمد شرعيتها في علاقتها بالجماهير. فالزعيم السياسي يستمد شرعيته من مدى تمثيله للجماهير، بينما الجماهير يبدو وكأنها هي التي تستمد شرعيتها الدينية والوجودية من العالم الرباني.
4) حول علاقة الشاعر/العالم بالمؤسسة
من بين أهم دروس تجربة الأستاذ فريد الأنصاري ضمن حركة التوحيد والإصلاح أنها تبين ضيق المثقف بالأجواء التنظيمية وضيقها به. فعنف كتاب الأخطاء الستة في أحد أبعاده تعبير عن حالة الاختناق التي كان يعيشها هذا “الشاعر الأصولي” ضمن أجواء لها إكراهاتها والتزاماتها التي تتباين مع متطلبات الذات الشاعرة.
لقد اجتمعت في شخص الأنصاري ذوات متعددة، فهو الشاعر و”الصوفي” وهو العالم خريج الدراسات الشرعية. كيف استطاع الأنصاري أن يدبر متطلبات هذه الذوات المتعددة؟
الشاعر يضيق ذرعا بالمباشر ويجعل من تجربته الذاتية عالما يضاهي العالم الواقعي والسياسي. لذا كان الحق الذي يسعى وراءه الشاعر ذاتيا. والتصوف يمنح هذه الذات المتمحورة حول نفسها إشراقها وشرعية نزوعها نحو عوالم مثالية تؤثثها رقائق “القوم”[10] وسيرهم.
والخطيب خريج الدراسات الشرعية الحديثة يرفض أن يصنف أو أن يحشر ضمن الدوائر التنظيمية الضيقة لكون فضاء اشتغاله (المسجد) فضاء مفتوح وجمهوره هو عموم المؤمنين. كما أن وضعية خريج الدراسات الشرعية الحديثة هي وضعية مركبة من حيث علاقته بالدولة الحديثة وبجمهوره. فالدولة مصدر رزقه ومصدر متاعبه. ثقة الجمهور فيه ترتبط باستقلاليته عن الدولة، لكن فرص ومساحات تحركه تتحكم فيها الدولة. فريد الأنصاري الذي ضاق ذرعا بالتنظيمات الحركية لن يمانع من الاشتغال ضمن المؤسسة الرسمية الدينية بعد تعيينه على رأس المجلس العلمي لجهة مكناس.
المأزق الذي يعيشه العالم الديني في مجتمعاتنا السنية مرتبط بهيمنة الدولة على فضاءات التعبير والفعل داخل المجتمع بما فيه الديني. من هنا نفهم رهان العالم والمثقف العربي عموما على الدولة كفاعل وسعيه لإيجاد مكان له ضمن فضاءاتها لتأدية ما يراه رسالة له بعد يأسه من التغيير من خارج مؤسساتها الرسمية.
5) خاتمة
إن “الحدث الأنصاري” يبرز لنا بوضوح مأزق التجربة الحركية الإسلامية في علاقتها بالدين كمصدر لشرعيتها، والعصر كمسرح لفعلها. فهو في ظاهره خلاف بين حركة وأحد منتسبيها السابقين، وباطنه تعبير عن أزمة يعيشها عموم الفاعل الديني في تمثله للدين وقيمه وما تتطلبه شروط تنزيله في واقع يزداد تفلتا من عقال الدين وقيمه. فوفاءه لدينه أو ما يعتبره جوهر الدين يجعله في غربة عن البنيات المؤسسية الحديثة حيث “السياسي” هو “صاحب الزمان”، واندماجه في هذه البنيات يخلق لديه إحساسا (وهميا أو حقيقيا) بانسلاخه عن دينه.
في نظرنا، إن مسؤوليات الحركات الإسلامية بوصفها من أهم الفاعلين الدينيين أن تساهم في تجاوز مثل هذه الأزمات من خلال فتح نقاشات ضمن نخبها حول طبيعة الأزمة التي ما يزال المشروع الإسلامي يتخبط في براثينها. كما يفرض عليها تأسيس فضاءات للنقاش النظري تستوعب من خلالها طاقاتها العلمية وتوظفها لترشيد المشروع الإسلامي بدل التشويش عليه.
[1] الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، انحراف استصنامي في التصور والممارسة،
حقائق تاريخية ومقولات نقدية تنشر لأول مرة!
[2] آخر منصب تولاه فريد الأنصاري هو عضوية المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح وهو أعلى هيئة تقريرية ضمن هذه الحركة.
[3] رابطة المستقبل الإسلامي تشكلت كتكل لثلاث جماعات إسلامية: جمعية جماعة الدعوة بمدينة فاس والجمعية الإسلامية بمدينة القصر الكبير وجماعة التبين بالرباط التي كانت أول تنظيم يستقل عن الشبيبة الإسلامية في السبعينيات.
[4] أنظر نموذجا لذلك مقال إدريس الكنبوري المنشور بجريدة المساء المغربية (العدد : 462 الجمعة 14 مارس 2008) تحت عنوان : فريد الأنصاري … المقاصدي التائه بحثا عن الحق.
[8] أنظر كنموذج لهذا الخلط مقال إدريس الكنبوري السالف الذكر بالهامش 4.
[10] القوم عند الصوفية يقصد به الجماعة الصوفية.