إدوارد سعيد وإشكالية العلاقة بين الفكر الاستشراقي والمشروع الإمبريالي: الخطاب الأمريكي نموذجا

يهدف هذا المقال أساسا إلى إبراز الخطوط العريضة لرؤية إدوارد سعيد وتصوره فيما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تجمع بين ظاهرتي الاستشراق والاستعمار. وسأحاول تحقيق هذا الهدف من خلال استحضار بعض أطروحات هذا المفكر العربي الكبير حول الخطاب الاستشراقي والعلاقات المتوترة دوما بين العالم الغربي والعالم الإسلامي بشكل عام. وفي ضوء هذه الأطروحات سأحاول التركيز على الاستشراق الأمريكي كنموذج لتقديم صورة واضحة عن مدى علاقة هذا الفكر بالسياسة الاستعمارية والإمبريالية التي انتهجها ولا يزال ينتهجها الغرب – وخاصة منه الولايات المتحدة الأمريكية حاليا- في مناطق عديدة من العالمين العربي والإسلامي. و سوف يكون الغزو الأمريكي للعراق و ما واكبه من خطابات أيديولوجيةـ مثل خطاب الإرهاب أو “الحرب ضد الإرهاب” و زرع بذور الديمقراطية و التحضر في ذلك العالم *الآخر*ـ أبرز مثال لتوضيح كيفية تترجم الأفكار الاستشراقية إلى ممارسات استعمارية ذات آثار كارثية على أرض الواقع.

لكن قبل الدخول في صلب هذا الموضوع الهام، وبما أن المناسبة مخصصة بالأساس للحديث عن الراحل إدوارد سعيد و مشروعه الفكري الرائد، فلابد من وقفة ولو وجيزة للتذكير بعظمة هذا الرجل ونضالاته المستميتة والمتواصلة لنصرة القضية الفلسطينية وقضايا كل الشعوب المقهورة والمستعمرة في جميع أرجاء العالم. فقد كان مناضلا من الدرجة الأولى ومفكرا طليعيا استطاع أن يؤثر على شريحة هامة من المثقفين عبر العالم بفضل أفكاره النيرة ونظرياته الرائدة في ميادين النقد والأدب والدراسات الثقافية. كما استطاع أن يؤثر لوحده على الرأي العام الأمريكي بل والعالمي فيما يرتبط بمعاناة الشعب الفلسطيني وذلك من خلال مقالاته الصحفية ومحاضراته الأكاديمية ومناظراته أو تحليلاته السياسية عبر جهاز التلفزيون و شبكة الانترنيت.

ففي ميدان الثقافة والأدب أنتج سعيد عدة كتب جد متميزة نذكر منها: الاستشراق (1978) تغطية الإسلام (1981)، العالم، النص والناقد (1984)، الثقافة والإمبريالية (1993) وخارج المكان (1999). أما في الساحة السياسية داخل الولايات المتحدة فقد كان بحق أفضل من مثل الفلسطينيين والمسلمين عموما حيث دافع بشراسة عن قضاياهم العادلة رغم كل الصعاب وعلى الرغم من أن الرأي العام الأمريكي ميال على الدوام لتبني الأطروحات الصهيونية نظرا لتأثير الإعلام واللوبي اليهوديين هناك. كما أنه كان من أبرز المنتقدين للسياسة الأمريكية الخارجية ولتواطؤ دور الإعلام مع هذه السياسة، وكانت آراؤه ومواقفه تحظى دوما بالاهتمام والتقدير تماما كما هو الشأن في هذا المجال بالنسبة لبعض المفكرين اليساريين الأمريكان من أمثال كور فيدال و نعوم تشومسكي.

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن إدوارد سعيد كان يعتبر نفسه “فلسطينيا أمريكيا”؛[i][1] وقد استفاد كثيرا من تجربته كمواطن أمريكي قادم من منطقة الشرق الأوسط حيث مكنته هذه الوضعية من الفهم الدقيق والميداني لإيديولوجية الغربيين ومخططاتهم السرية والعلنية لاستهداف ضحاياهم من الشعوب الشرقية. وقد صرح في إحدى مقالاته بأنه كان يستمتع باستراق السمع إلى تصريحات ومناقشات بعض المستشرقين كما كان يستمتع بالإفصاح عن استنتاجاته من كل ذلك للأوروبيين وغير الأوروبيين. ويضيف سعيد قائلا: “ليس لي أدنى شك في أن ذلك كان متاحا لي بفضل تمكني من اختراق الحاجز الإمبريالي شرق–غرب، والتسرب إلى عمق الحياة الغربية دون فقدان ارتباطي العضوي بالمكان الأصلي الذي قدمت منه، أعتقد أن (كتاب) الاستشراق يوضح ذلك.”[ii][2] وبالفعل فقد أكد سعيد في هذا المؤلَّف المشهور كيف انطلق من تجربته الشخصية كفلسطيني مهجَّر وكإنسان شرقي متشبث بأصوله لينمّي منذ طفولته وعيا نقديا معتبَرا مكّنه من إنجاز تلك الدراسة الدقيقة حول علاقة الشرق بالغرب الاستعماري. وعن هذا يقول:

إن معظم ما في هذه الدراسة من استثمار شخصي ليشتق من وعيي لكوني “شرقيا” نشأ طفلا في مستعمرتين بريطانيتين. ولقد كانت كل دراساتي، في هاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر) وفي الولايات المتحدة، غربية، بيد أن ذلك الوعي العميق المبكر استمر رغم ذلك بإلحاح. وبطرق عديدة، فإن دراستي للاستشراق كانت محاولة لجرد تلك الآثار علي “أنا” الموضوع الشرقي، للثقافة التي كانت سيطرتها عاملا على درجة كبيرة من القوة في حياة جميع الشرقيين. وذلك هو السبب في أن الشرق الإسلامي، بالنسبة إلي، كان لا بد أن يكون مركز الاهتمام. [ لقد…] حاولت أن أحتفظ بوعي نقدي، كما حاولت أن أستخدم أدوات البحث التاريخي، والإنساني، والثقافي التي جعلتني دراستي متلقيا سعيد الحظ لها. بيد أنني في أي من هذا لم أفقد أبدا السيطرة على الواقع الثقافي “الشرقي” أو الانشباك الشخصي لكوني قد تكونت “كشرقي”.[iii][3]

وهكذا، واستثمارا لمثل هذا الوعي النقدي الحاد، تجند إدوارد سعيد لفحص ومساءلة العديد من الكتابات والخطابات الأيديولوجية الغربية التي جعلت من الشرق موضوعا لها في ميادين معرفية مختلفة كالفيلولوجيا والأنتروبولوجيا والمسرح والأدب (وخاصة أدب الرحلات). والقاسم المشترك الذي يجمع كل هذه الخطابات الاستشراقية، في رأيه، يكمن في نظرتها الدونية إلى الشرق واعتباره ككيان آخر، مختلف ومتخلف ثقافيا وحضاريا بالمقارنة مع الغرب المتقدم والعقلاني. ومن خلال هذه النظرة التي تذمّ الآخر وتمتدح الذات تطورت فكرة إيديولوجية استعمارية مفادها أن هذا الآخر، أي الشرق، لا يمكنه أن ينعتق من ورطته ونكسته الحضارية إلا إذا تدخل الغرب لإنقاذه ومساعدته. بل ويذهب هذا الفكر الاستشراقي إلى حد الجزم بأنه من واجب الغرب أن يتحمل عبء هذه المسؤولية ’الإنسانية‘ فيمضي قدما ليحمل النور والحضارة والتقدم لأولئك الشرقيين البدائيين والمتخلفين في سائر المجالات.

من هنا ينطلق إدوارد سعيد ليعرّفنا بما يقصده بفكرة أو مصطلح ’الاستشراق‘ ليتفرغ بعد ذلك إلى دراسة النظريات المغلوطة والأحكام المسبقة التي يرتكز عليها هذا الفكر، أو بالأحرى هذا ’الخطاب‘ أو ’الإنشاء‘، كما يصر سعيد على تسميته. ومن بين التعريفات الثلاثة التي يقترحها هذا المفكر، قد يكفي أن نورد هنا تعريفه الأول بما أنه الأشمل وكذلك الأنسب لمعالجة إشكالية المركز والهامش عموما وكذلك إشكالية العلاقة بين ما هو فكري وما هو عملي وإمبريالي في موقف الغرب تجاه نظيره – أي الشرق. وفي هذا التعريف يؤكد سعيد بأن:

الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي (انطولوجي) ومعرفي (ابستمولوجي) بين الشرق و(في معظم الأحيان) “الغرب”. وهكذا، فقد تقبل جمهور كبير جدا من الكتاب، وبينهم شعراء، وروائيون، وفلاسفة، ومنظرون سياسيون، واقتصاديون، وإداريون استعماريون، التمييز الأساسي بين الشرق والغرب بوصفه نقطة الانطلاق (لسلسلة) محكمة الصياغة (من) النظريات، والملامح، والروايات، والأوصاف الاجتماعية، والمسارد السياسية التي تتعلق بالشرق، وسكانه، وعاداته، و”عقله”، وقدره، وما إلى ذلك.[iv][4]

إذن من خلال هذا التعريف الشامل يتبين لنا كيف يقف الشرق والغرب كطرفي نقيض حيث يشكل الشرق كل ما لا ينتمي وما لا يرتبط عضويا بمفهوم ’الغرب‘. ولا شك أن الشرق المقصود هنا هو ذلك الكيان المتخلف والمظلم، المرتبط بالأساطير والأحداث السحرية أو الخرافية كالتي يجدها القارئ الغربي في حكايات ألف ليلة وليلة. وفي هذا السياق يؤكد إدوارد سعيد منذ الفقرة الأولى من مؤلفه بأن الشرق “كان منذ القدم الغابر مكانا للرمنسة (الرومانس)، والكائنات الغريبة المدهشة، والذكريات والمشاهد الشابحة، والتجارب الاستثنائية.”[v][5] ويمضي المؤلف موضحا بأن أي إنسان غربي يؤمن بهذا المفهوم لفكرة الشرق ثم يؤسس كتاباته عن هذا الأخير على مثل تلك الأفكار والأحكام الإيديولوجية يعتبر بالأساس كاتبا أو مفكرا استشراقيا.

لكن الفكرة الجوهرية التي يرتكز عليها سعيد طوال حديثه عن مسألة الاستشراق هي أن الشرق كما يصوره أو يتصوره الغربيون ما هو إلا ’اختراع‘ أو اختلاق لغوي وإيديولوجي، ولا صلة له بتاتا بالشرق الجغرافي الموجود موضوعيا على أرض الواقع. معنى هذا أن مفهوم الشرق في الكتابات الغربية لا يعدو أن يكون نتاجا لخطابات مغلوطة ومغرضة تتظاهر بالعلمية والنزاهة المعرفية والموضوعية لتحقيق أهداف إستراتيجية واستعمارية على حساب ما ومن تنصبه كـ’آخر‘ بالنسبة للغرب أو المركز. ولهذا السبب، يقول سعيد، وجب دراسة الفكر الاستشراقي كله بوصفه ’خطابا‘ أو إنشاء ولا شيء غير ذلك، إن:

ما أطرحه هنا هو أننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه إنشاء فلن يكون بوسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيما عاليا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق –بل حتى أن تنتجه- سياسيا، واجتماعيا، وعسكريا، وعقائديا، وعلميا، وتخيليا، في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير (…) وبكلمات أخرى، فإن الشرق، بسبب الاستشراق، لم يكن (وليس) موضوعا حرا للفكر أو الفعل.[vi][6]

يتضح إذن من هذا التأكيد أن الشرق ’الاستشراقي‘ هو بالأساس منتوج نصي وإنشائي أبدعه الغرب لتحقيق مآرب إيديولوجية وجيوسياسية مرتبطة بالهيمنة والسيطرة الاستعمارية على جزء كبير مما يقع جغرافيا شرق العالم الغربي (ونعني هنا بالخصوص العالم الإسلامي). إن الشرق، كما يصر سعيد، قد ’شُرْقِن‘ Orientalized من طرف الغرب، أي أنه أُنتج أو أعيد خلقه نصيا عن طريق بنيات نصية مشبوهة هدفها النهائي إحكام السيطرة وممارسة الهيمنة الثقافية والإمبريالية على ذلك الجزء الهام من العالم. وهنا تلتقي المعرفة بالقوة أو السلطة، حسب تعبير ميشيل فوكو، مما يعني أن قوة الغرب منحته فرصة اتخاذ الشرق كموضوع لدراساته وأبحاثه المعرفية، لكن هذه المعرفة نفسها استُغلت كمطية أو غطاء إيديولوجي لممارسة الهيمنة والسلطة الاستعمارية على الشرق. وهذا ما دفع سعيد إلى القول بأن: “العلاقة بين الغرب والشرق هي علاقة من القوة، ومن السيطرة، ومن درجات متفاوتة من الهيمنة المعقدة المتشابكة.”[vii][7]

ومن أغوار هذا التعقيد والتشابك في علاقات العالمين الشرقي والغربي يمكننا أن نلمس كيف يمكن لفكر مثل الفكر الاستشراقي أن يُوَجّه وجهة سياسية وإيديولوجية قد يكون هدفها النهائي بسط الهيمنة الاستعمارية على الشعوب الأخرى. إذ تحت ذريعة حماية المصالح الوطنية أو القومية لأي دولة غربية ما تستطيع هذه الأخيرة أن تستهدف أي دولة شرقية مثلا كما حصل مؤخرا في استهداف العراق من طرف الولايات المتحدة. وقد أشار سعيد في دراسته للاستشراق إلى مثل هذا السلوك الإمبريالي حيث قال: “إن كون بريطانيا، وفرنسا، ومؤخرا الولايات المتحدة قوى إمبريالية يجعل مجتمعاتها السياسية تنقل إلى مجتمعاتها المدنية إحساسا بالإلحاح، أو نفخا سياسيا مباشرا، لنقل،

حينما وحيثما يمس الأمر قضايا تتعلق بمصالحها الإمبريالية في الخارج.”[viii][8]

فلأجل أغراض إستراتيجية وأهداف سياسية لا غبار عليها حاول الساسة الأمريكان مثلا أن يقنعوا مجتمعهم المدني بضرورة شن الحرب على العراق، وقبلها أفغانستان. وقد وظفوا لتحقيق هذا الإقناع، الذي كان موجها كذلك للرأي العام العالمي، خطابات استشراقية عديدة كان عنوانها ولا يزال: “القضاء على الإرهاب”. لكن قبل مناقشة هذه المسألة بشيء من التفصيل لابد من الإشارة إلى كتاب هام آخر لإدوارد سعيد يوضح فيه بدقة وبراعة كيف يمكن لعمل فكري أو أدبي مثل الرواية أن يساهم في تمهيد الطريق للسيطرة على رقاب وخيرات وأراضي الآخرين. والكتاب المقصود هنا هو، طبعا، الثقافة والإمبريالية، الذي يوسع فيه سعيد مجال دراسته ليشمل، بالإضافة إلى العالم الإسلامي، بلدانا أخرى مثل الهند وجزر الكارايبي والدول الإفريقية بشكل عام.

وهكذا، فبدل اختصار كلامه عن الخطاب الاستشراقي فقط، يتحدث سعيد الآن عن خطابات أخرى مماثلة تنطبق على أرجاء وأصقاع أخرى تعرضت هي أيضا للاستعمار الغربي. فبعد تساؤله في مستهل هذا المُؤَلَّفِ الجديد عن المناطق الإضافية التي سيتناولها، يجيب قائلا:

إنها الكتابات الأوربية عن إفريقيا، والهند، وبعض مناطق الشرق الأقصى، وأستراليا، وجزر البحر الكاريبي، إنني لأعتبر هذه الإنشاءات الأفريقانية والهندانية، كما يسمى بعضها، جزءا من مجمل الجهود الأوربية لحكم بلدان وشعوب نائية، وأعتبرها لذلك مترابطة مع الأوصاف الاستشراقية للعالم الإسلامي، كما هي مترابطة مع طرق أوربا الخاصة في تمثيل الجزر الكاريبية، وإيرلاندا، والشرق الأقصى. واللافت في هذه الإنشاءات هو الصور المجازية التي يواجهها المرء باستمرار في أوصافها لـ”الشرق السري”، إضافة إلى التنميطات التي تخلقها لـ”العقل” الإفريقي (أو الهندي أو الإيرلاندي أو الجامايكي أو الصيني)، والمفاهيم التي تدور حول إيصال الحضارة إلى شعوب بدائية وبربرية، والأفكار المؤلوفة إلى درجة الإزعاج حول اقتضاء الجَلْدِ بالسياط أو الموت أو العقوبة المسرفة حين يسيؤون “هم” السلوك أو يتمردون لأنـ”هم”، في الأغلب، يفهمون أفضل فهم لغة القوة والعنف؛ فـ”هم” ليسوا مثلـ”نا”، وهم لهذا السبب يستحقون أن يُحكموا.[ix][9]

يفهم من هذا الكلام الهام أن ما يسميه سعيد بالخطابات أو الإنشاءات الأفريقانية والهندانية وغيرها لا تختلف في جوهرها وأيديولوجيتها عن الخطاب الاستشراقي. فهي أيضا مبنية على الاعتقاد والتصور الوهميين بأن شعوب هذه المناطق الأخرى المستضعفة ما هم إلا برابرة وأناس متوحشون ينبغي أن يخضعهم الغرب لحكمه وسيطرته. بل، أكثر من ذلك، قد يتطلب الأمر حتى جلد وعقاب وإذلال هذه الشعوب من أجل تأديبها وتلقينها دروسا في السلوك ’الإنساني‘ والعيش ’المتحضر‘.

والملاحظ هنا أن الغرب يختلق صورتين مضادتين من خلال هذه الخطابات : واحدة خاصة به وأخرى خاصة بغيره من الشعوب التي ينظر إليها كنقيض حضاري. فهذا النقيض أو الآخر يُصَوَّرُ دوما بطريقة سلبية حيث يظهر كإنسان بشع أو حقير أو همجي يُخشى شرّه ولا يُرجى خيره. أما الإنسان الغربي فهو المثال والنموذج لما ينبغي أن يكون عليه كل إنسان عصري في مجال الأخلاق والتقدم والحضارة وما إلى ذلك. ومن خلال هذا التصوير الإيديولوجي يمكن أن نرى بوضوح تضخم ’الأنا‘ عند الإنسان الغربي حيث يُنَصِّبُ نفسه في موقع حضاري وأخلاقي استراتيجي ومركزي، بينما ينفي ’الغير‘ أو ’الآخر‘ لاحتلال مواضع هامشية حقيرة وخاضعة لسيطرته ومشيئته هو.

وكما يوضح سعيد، فهذه الخطابات أو الإنشاءات تعتمد أساسا على إستراتيجية التنميط والاختزال في عكسها لصورتي الأنا والآخر. ورغم أن صورة الأنا قد لا تكون بارزة من ظاهر الخطاب فإنه غالبا ما يتم تشكيلها وتقديمها ضمنيا انطلاقا من نقيضها –أي صورة الآخر. فإذا كان هذا الآخر يُصَوَّرُ مثلا كخادم أو عبد يستحق أن يُضرب ويحكم فمعنى ذلك أن الإنسان الغربي هو السيد والمربّي والحاكم. وتعد مثل هذه القطبية بين ’الأنا‘ و’الآخر‘ أو ’المركز‘ و’الهامش‘ بمثابة العمود الفقري في بنية الخطاب الاستعماري، وهي تعمل دوما كَلاَزِمَةٍ تتكرر بشكل روتيني في جميع نصوص هذا الخطاب تقريبا، لكن بدرجات متفاوتة من الوضوح والمباشرة. ولإثبات هذا الرأي يورد إدوارد سعيد أمثلة عديدة لنصوص روائية استعمارية يسعى كل واحد منها بطريقته الخاصة إلى تكريس تلك الصورة النمطية السلبية عن الآخر وإلى تأكيد مركزية الأنا الغربية. وينطلق سعيد من هذه الأمثلة الروائية ليقدم الدليل عن وجود ارتباط وثيق بين الثقافة والإمبريالية، فالرواية –باعتبارها نتاجا ثقافيا- قد تُستغل من طرف كاتبها إيديولوجيا لخلق أو تكريس بنيات وتصورات تبرر الهيمنة الاستعمارية وتشجع القارئ (الغربي خاصة) على تقبّلها. يقول سعيد في هذا السياق :

لقد تناولت بشكل خاص أشكالا ثقافية كالرواية، أعتقد أنها كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهة النظر، والإشارات، والتجارب الإمبريالية. وأنا لا أعني أن الرواية وحدها كانت هامة، بل أنني أعتبرها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة في بريطانيا وفرنسا ظاهرة شيقة بصورة خاصة للدراسة.[x][10]

ففي رواية روبنسون كروزو Robinson Crusoe مثلا يقدم لنا الكاتب دانيال ديفو مغامرة خيالية لشاب إنجليزي ينتهي به الأمر، بعد مصاعب ومخاطر جمة، إلى جزيرة مهجورة يضطر للبقاء فيها أزيد من ربع قرن. لكن بفضل ذكائه ومجهوداته الفردية استطاع كروزو أن يحول الجزيرة إلى مزرعة شاسعة وإلى مكان ينبض بالحياة والإشعاع الحضاري. وفي الأخير يعود إلى بلده الأصلي بعد أن صارت الجزيرة ملكا له – وبصورة ضمنية ملكا إضافيا لإنجلترا، تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. وهكذا، فرغم أن هذا العمل الروائي مفعم بالتشويق ومصاغ بقدر معتبر من الفن والجمالية إلا أنه يحمل خطابا إيديولوجيا استعماريا مؤداه أنه بإمكان أي مغامر إنجليزي أن يعثر على أرض ما أو جزيرة فيما وراء البحار، فيمتلكها ويصير غنيا مثل كروزو. لكن ينبغي أن يبقى هذا المعمِّر دوما في ارتباط مع وطنه الأصلي لتبقى ملكيته شخصية وقومية في نفس الوقت !

وإذا كانت إيديولوجية ديفو الإمبريالية واضحة من خلال أحداث روبنسون كروزو— التي يعتبرها النقاد كأول رواية في العالم، و التي ظهرت إبان بداية إنجلترا لحملتها الاستعمارية— فإن نفس الإيديولوجية عند أغلب الكتاب الحداثيين من أمثال جوزيف كونراد وألبير كامو وبول بولز تبقى مغلفة شيئا ما بكثير من الرموز والتقنيات السردية التي توحي ببعض الغموض واللامباشرة أو حتى التناقض أحيانا. ففي رواية قلب الظلامHeart of Darkness مثلا يكتب كونراد عن تجربة مارلو (شخصيته المحورية) خلال رحلة بحرية إلى أعماق القارة الإفريقية. ورغم أن مارلو يميل إلى إدانة الممارسات القاسية واللاإنسانية لبعض المعمِّرين، وعلى رأسهم كورتز، أثناء استغلالهم للأفارقة ولثروات أراضيهم، فإنه يميل في نفس الوقت إلى تبرير ذلك الواقع الامبريالي ولو بطريقة جد ملتوية وضمنية. والحقيقة أن عنوان الرواية ذاته لا يخلو من شحنة عنصرية إمبريالية بما أنه يربط إفريقيا بفكرة الظلام، ويوحي بالمقابل بفكرة أن الغرب هو مركز الأنوار والحضارة. يعني هذا أن هذه الرواية تكرس قطبية المركز والهامش حيث توظف الرمزية لترسيخ الصورة النمطية لإفريقيا كعش للجهل والظلامية والهمجية والتخلف على جميع الأصعدة. أما أوروبا أو دول المركز بشكل عام فهي بلاد النور و العلم والتحضر والإنسانية. و رغم أن كورتز كان قد غادر هذا المركز أصلا ليحمل شعلة النور والحضارة إلى ذلك العالم الإفريقي المظلم، إلا أنه لم يستطع أن يكبح جماح نزواته الجشعة وتطلعاته الإمبريالية فصار كالوحش الضاري في استهدافه لضحاياه الأفارقة. ومع ذلك لا يتردد مارلو في التعاطف، بل إنه يذهب إلى حد التماهي، مع شخصية هذا الإمبريالي البشع، إبن جلدته.

وهكذا يستنتج سعيد بأنه بإمكان السرد الروائي، الذي هو بالأساس منتوج ثقافي، أن يساهم في تكريس وعقلنة العمل الإمبريالي بطرق مختلفة. فمثل هذا السرد، في نظره، يشجع القارئ على تقبل الواقع الاستعماري كمعطى طبيعي، أو حتى ضروري خاصة عندما يُصَوَّر المستعمَر أو الآخر كمخلوق بدائي أو همجي—قد يكون حتى من آكلي لحوم البشر، كما يدعي كروزو في سرده لأحداث مغامرته. إذ عندما تتكرر مثل هذه التنميطات التحقيرية والإدعاءات المغرضة لا يقوى القارئ الغربي على مقاومة تأثيرها الإيديولوجي فتترسخ لديه الفكرة بأن الآخر هو فعلا نقيضه الحضاري وبأن الغرب مُحقّ في سعيه إلى تأديبه وإخضاعه لحكمه وسيطرته.

من هذا التوضيح الذي يقدمه إدوارد سعيد عن علاقة الثقافي والإمبريالي يمكننا أن نركز الآن على علاقة الفكر الاستشراقي الأمريكي بالسياسة الإمبريالية الأمريكية في منطقة الخليج العربي وفي العالم الإسلامي عموما. لكن يجب الإشارة هنا إلى أن هذا الاستشراق الأمريكي يعتمد في ترويجه أساسا على وسائل الإعلام العصرية، وليس على الخطابات الأكاديمية والنصوص الأدبية كما كان الشأن بالنسبة للاستشراق الأوروبي (وخاصة الإنجليزي والفرنسي) خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فالتلفزة والإنترنيت والصحافة المتطورة أصبحت في عصرنا الحالي أنجع الوسائل لترويج أو تبرير أي إيديولوجية أو للتأثير على قطاعات واسعة من الرأي العام المحلي والعالمي. وما من شك في أن الولايات المتحدة قد استفادت إلى حد بعيد من خدمات هذه الوسائل العصرية وراحت تشق طريقها نحو بناء ما تطمح أن يصير إمبراطورية أمريكية بعد انهيار كل الإمبراطوريات السابقة.

وينظر إدوارد سعيد إلى تطور هذه الأمبريالية الأمريكية كحقيقة ماثلة للعيان. ففي إحدى مقالاته الأخيرة في صحيفة الكارديان البريطانية (تم نشرها عبر الإنترنيت في 2 غشت 2003، أي أسابيع قليلة قبل وفاته) ينتقد سعيد بشدة ما يسميه بـ”الاحتلال اللاشرعي للعراق من طرف بريطانيا والولايات المتحدة”. وفي تساؤل ذو معنى يقول: “خمس وعشرون سنة بعد نشر كتابي، يطرح الاستشراق مرة أخرى سؤال حول ما إذا كانت الامبريالية الحديثة قد انتهت أم أنها استمرت في الشرق منذ دخول نابليون إلى مصر منذ قرنين.”[xi][11] وفي معرض تحليله في نفس هذا المقال الذي عنونه “نافذة على العالم” يتهكم سعيد من رغبة الساسة الأمريكان في تغيير خريطة الشرق الأوسط، مشيرا إلى تأثير الفكر الاستشراقي على هؤلاء المسؤولين. إذ، في رأيه، لولا وجود بعض المستشارين المستشرقين في البيت الأبيض والبنتاغون ومجلس الأمن القومي من أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي لما آلت الأمور إلى حد نشوب الحرب في منطقة الخليج. فهؤلاء المستشارون يقدمون أنفسهم كخبراء واختصاصيين في شؤون العالم العربي والإسلامي، لكنهم في الواقع مستشرقون معاصرون يرددون نفس الأكليشيهات والأساليب التحقيرية ونفس التبريرات لاستعمال القوة ضد الآخر كتلك التي كانت تصدر عن المستشرقين الكلاسيكيين. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن سعيدا كان قد أكد في كتابه الاستشراق نفس هذا الرأي الذي يرى بأن هناك ترابط جد وثيق بين خطابات المستشرقين القدامى في أوربا ونظرائهم الأمريكان المعاصرين الذين يفضلون تسمية الخبراء. لكن سعيدا يصمهم عنوة بالمستشرقين وذلك، كما يقول، “للفت الانتباه إلى الطريقة التي ما يزال بها خبراء الشرق الأوسط يَمْتَحُون من مخلفات مركز الاستشراق الفكري في أوربا القرن التاسع عشر.”[xii][12]

إذن من خلال هذه التأكيدات لإدوارد سعيد يبدو لنا بأن الفكر الاستشراقي كان على الدوام سببا رئيسيا في استهداف منطقة الشرق من طرف القوى الامبريالية الغربية. ويفهم من هذا أن الاستشراق لم يلعب دورا تبريريا فقط بل إنه كان المُحَفِّز المحوري لبسط النفوذ الاستعماري الغربي على الدول العربية والإسلامية. ولكي تتضح الفكرة أكثر بخصوص هذه العلاقة الحميمية بين ظاهرتي الاستشراق والاستعمار، دعنا نستعرض بعجالة بعض الأفكار والتصريحات لبعض الساسة الأمريكيين ثم نلاحظ مدى علاقتها بالواقع الامبريالي الحاصل الآن في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. وليكن موضوع “حرب أمريكا على الإرهاب” محور هذه الأمثلة.

في هذا الإطار يمكن الجزم بأن أقوى فكرة استشراقية وأعمقها تعبيرا هي التي صدرت عن الرئيس الأمريكي جورج بوش نفسه عندما صرح مباشرة بعد أحداث 11 شتنبر 2001 بأن بلاده ستخوض “حربا صليبية” ضد الإرهابيين في أفغانستان ومناطق أخرى. فكلمة ’صليبية‘ هنا مشحونة وبشكل مكثف بإحالات تاريخية ودينية وحضارية وإيديولوجية ميزت علاقات الغرب بالشرق لعهود طويلة. إذ من المعروف أن الغرب قد شن عدة حروب دينية على المسلمين خلال القرون الوسطى، وهي التي يُطلق عليها اسم ’الحروب الصليبية‘. وكانت هذه الحروب في جوهرها حروبا استعمارية فرضها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي، وكانت ربما سببا في استمرار توتر العلاقات بين الطرفين منذ ذلك العهد وإلى الآن. ومن الواضح أن هناك ارتباط وثيق جدا بين تلك الحروب وحرب بوش الحالية على الإرهاب. فهذه الحرب أيضا موجهة بالأساس ضد العالم الإسلامي كما أنها حرب استعمارية دون أدنى شك.[xiii][13] أما كلمة ’إرهاب‘ فما هي إلا غطاء إيديولوجي وفكرة مطاطة وضبابية أصبح الأمريكان يوظفونها استراتيجيا ضد المسلمين على الخصوص لتيسير استهدافهم وتحقيق الحلم الإمبريالي الأمريكي على حسابهم. وقد صارت هذه الكلمة مكررة إلى حد الابتذال في جل الخطابات السياسية الأمريكية، وخاصة منها خطابات الرئيس بوش. لكنه تكرار مقصود هدفه تكريس ربط مفهوم الإرهاب بالإسلام والمسلمين عموما، وقد نجحت الولايات المتحدة إلى حد بعيد في عملية التنميط أو الاختزال الإستشراقي هذه حيث أنها استثمرت ذلك الربط الأيديولوجي التعسفي في سعيها الحثيث لإعادة تشكيل خريطة العالم الإسلامي لكي تتناسب مع مصالحها ومآربها الاستعمارية.

وعلى ذكر مسألة تغيير الخرائط، يجدر التذكير هنا بأن العنوان الفرعي للكتاب المشهور الذي ألفه صامويل هانتنغتون سنة 1996 –أي صراع الحضارات هو “إعادة تشكيل النظام العالمي” – The Remaking of The World Order. ويتضمن هذا الكتاب أيضا العديد من الأفكار والإسقاطات الاستشراقية حيث أنه يصور الإسلام أو العالم الإسلامي كأخطر نقيض حضاري للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وفيه يحذر هانتنغتون من هذا الخطر الإسلامي القادم، داعيا كل الدول الغربية للتكتل وتوحيد الصف استعدادا للمواجهة لأن الصراعات الآن أصبحت صراعات ثقافية و حضارية. ويبدو واضحا أن الساسة الأمريكان قد تأثروا بالمغالطة الإيديولوجية والآراء الاستشراقية لهذا الخبير الاستراتيجي الخطير فسارعوا إلى التبشير بخرائط شرقية (وليست عالمية) جديدة اختزلوها في شعارات ومسميات براقة لكنها مشبوهة مثل ’الشرق الأوسط الكبير‘ (أو ’الجديد‘)، ’إعادة بناء العراق‘ وكذلك ’خارطة الطريق‘ بالنسبة للمشكل الفلسطيني.

فعلى سبيل المثال، انتهزت مؤخرا كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، أزمة نشوب الحرب بين حزب الله اللبناني و إسرائيل فأعلنت بأن الوقت قد حان لتنفيذ مشروع ’الشرق الأوسط الجديد‘, إذ ظنا منها ومن إدارتها بأن إسرائيل ستخرج لا محالة منتصرة من تلك الحرب فقد سارعت إلى التعبير بصراحة و انتهازية واضحة عن رغبة أمريكا في تغيير وجه المنطقة بالشكل الذي تراه صالحا لخدمة نواياها الإمبريالية. لكن صمود حزب الله —الذي تصر أمريكا على تصنيفه في خانة ’الجماعات الإرهابية‘—أفشل الخطة و أرجأ إمكانية التمرير الفعلي لهذا المشروع الإمبريالي المرتقب.

ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة تعمل دوما على تحقيق هذه الأهداف والمشاريع الإستراتيجية الكبرى تحت ذريعة الرغبة في نشر الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. فالعالم الإسلامي، كما ترى رايس نفسها، لا يملك تاريخا للديمقراطية ولا يعرف معنى لمثل هذه المبادئ، بل هو على العكس من ذلك غابة من الهمجية والحقد الأعمى ومصدر خطير للعنف والإرهاب.[xiv][14] لذا فمن واجب العالم المتحضر أن يعمل على ترسيخ الديمقراطية والأمن في المنطقة ولو عن طريق القوة و تغيير خرائط البلدان، تماما كما هو حاصل الآن في العراق وربما قريبا في أقطار أخرى مثل سوريا ولبنان وإيران والسودان !

وقد لا يحتاج المرء هنا إلى التأكيد بأن انتقاد أمريكا للدول العربية و الإسلامية بخصوص غياب الديمقراطية وما إلى ذلك يندرج أيضا في إطار التنميط الإستشراقي الذي يهدف دوما إلى رسم وعكس صورة حقيرة وسلبية جدا عن العرب والمسلمين, فالواقع يبين أن أمريكا ليس لها غرض أصلا أو مصلحة في أن يصير هؤلاء ديمقراطيين، لأن تثبيت الديمقراطية في المنطقة سيعصف كليا بأطماعها الاستعمارية هناك. والحقيقة أن ما تسعى إليه ليس هو الديمقراطية فعلا بل ما أسماه بعض منظريها التوسعيين ب”الفوضى الخلاقة” —أي حالة من انعدام الأمن والاستقرار على المستوى السياسي والاجتماعي تأتي كنتيجة للانقسامات الطائفية والنزاعات الإثنية أو القطرية بين شعوب المنطقة. فهذه ’الفوضى‘ ستؤدي حتما إلى إشاعة جو عارم من العنف والحقد والمجازر الوحشية؛ وهذا ما يعطي الذريعة للولايات المتحدة للتدخل السياسي والعسكري في المنطقة بحجة رغبتها أو ’واجبها‘ في فرض الأمن وتصدير الديمقراطية ومحاربة الإرهاب و’تجفيف منابعه‘.

من هنا يمكن أن نخلص إلى فكرة جوهرية تتمثل في أن الولايات المتحدة غالبا ما تستخدم و توظف مفاهيم أيديولوجية مشحونة كمكافحة ’الإرهاب‘ ونشر ’الديمقراطية‘ كذرائع فقط ل’شرقنة الشرقيين‘Orientalization of Orientals [xv][15] ليتسنى لها بعد ذلك التدخل في شؤونهم وبسط هيمنتها الاستعمارية عليهم. ويعني هذا في آخر المطاف أن الإرهاب الذي تزعم أمريكا أنها تحاربه هو من صنعها هي؛[xvi][16] كما أنها هي العائق الأكبر لانتشار الأمن و الحرية والديمقراطية في المنطقة بسبب تدخلاتها الإمبريالية المتعددة الأوجه ودعمها الدائم واللامحدود للكيان الصهيوني على حساب كل العرب والمسلمين.

وهكذا إذن يبدو جليا من خلال هذه الأمثلة والنماذج الخطابية التي ألمحنا إليها مدى تجدر الفكر الإستشراقي في السياسة الأمريكية ومدى توظيف واستغلال هذا الفكر— أو الأيديولوجيا بالأصح — في خدمة الأهداف و المخططات الإمبريالية التي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها في العالم العربي و الإسلامي. و معلوم أن هذه الخطابات الاستشراقية ليست بالتأكيد وليدة ظروف أحداث 11 شتنبر و ما بعدها، وإنما هي نتاج لمخططات و مشاريع امبريالية بدأت تبرز في أمريكا بوضوح منذ أواسط القرن الماضي. و قد لمح سعيد إلى هذه المسألة في كتابه الاستشراق حيث أكد انه “منذ الحرب العالمية الثانية، و بشكل أكثر بروزا بعد كل حرب من الحروب العربية-الإسرائيلية، أصبح المسلم العربي شخصية في الثقافة الشعبية الأمريكية، كما أن العربي أصبح يولى اهتماما جادا (عميقا) في العالم الجامعي، و عالم مخططي السياسة، و عالم الأعمال.”[xvii][17] و يرتبط هذا الاهتمام المكثف ب’شخصية‘ الإنسان العربي و المسلم طبعا بالصورة النمطية التحقيرية التي صارت تنسج عنه كخطوة إستراتيجية ضرورية لاستهدافه امبرياليا.

وقد كان للإسلام نفسه نصيب هام من هذا التصوير النمطي، كما أكد سعيد في كل من الاستشراق و تغطية الاسلام. ففي الكتاب الأخير مثلا يوضح هذا المفكر كيف صار الغربيون ينظرون إلى الإسلام على الدوام كجزء لا يتجزأ من ذلك الشرق ’المشرقن‘، يشاركه سحره و غرابته و تخلفه و خطورته الكامنة. و يمثل الإسلام، من هذا المنظور، قوة إستلافيةatavistic عارمة تنذر ليس فقط بالرجوع إلى ظلامية القرون الوسطى وإنما أيضا بتدمير الأسس و المفاهيم الديمقراطية التي تقوم عليها المجتمعات الغربية.[xviii][18] فالإسلام عدو التقدم و الديمقراطية و تجسيد للهمجية و الانحطاط.[xix][19] و لهذه الأسباب وجب على الغرب (و خاصة أمريكا، في هذا السياق) وضع حد لهذا التهديد الذي يشكله العالم الإسلامي و ذلك ب’تحريره‘ و إجباره على تعلم دروس التحضر و الديمقراطية و حقوق الإنسان.

لكن الواقع بيَّن و لا يزال يبين أن مثل هذه الادعاءات التي تصور الإسلام أو العالم الإسلامي ككيان همجي و بربري في الوقت الذي تصور فيه الغرب كحامل لمشعل الحرية و الحضارة و التمدن ما هي إلا خطابات أيديولوجية فجة غرضها الأول و النهائي هو السيطرة الاستعمارية على هذا العالم ’الآخر‘. ففي الساحة العراقية مثلا أظهرت التطورات المتلاحقة أن اتهامات الولايات المتحدة للعراق بوصفه مهددا للسلام العالمي ـ بدعوى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل و علاقته بالإرهاب ’الإسلامي الأصولي‘ و ما إلى ذلك ـ كلها ادعاءات باطلة و لا أساس لها من الصحة. كما أن الدمار الهائل و المجازر والانتهاكات اللاإنسانية التي حصلت في هذا البلد العربي على أيدي القوات الأمريكية اظهر بما لا يدعو مجالا للشك أن غزو أمريكا للعراق لم يكن أبدا بدافع رغبة هذه الأخيرة في نشر الحرية و مبادئ الديمقراطية و حقوق الإنسان و إنما بدافع الهيمنة على هذه البقعة الإستراتيجية الغنية بمصادر الطاقة.[xx][20] هذا علاوة على هدف استراتيجي آخر يتجلى في حماية إسرائيل ـ هذا الكيان الاستيطاني الغاصب و اللقيط الذي تبذل أمريكا من أجله أقصى الجهود لتثبيت وجوده و تبرير سياساته التوسعية و مجازره الدموية البشعة.

إذن من خلال كل ما تقدم يمكن أن نخلص إلى القول بأن هناك علاقة وطيدة جدا بين الفكر الاستشراقي و المشروع الامبريالي. و لا شك أن المفكر العربي إدوارد سعيد قد برع و أصاب في فهمه و سبره لأغوار هذه العلاقة المعقدة. كما لا شك أن دراساته و مقالاته العديدة في هذا المجال ـ و بالأخص كتابي الاستشراق و الثقافة و الامبريالية ـ تساعدنا كثيرا على فهم الميكانيزمات و الاستراتيجيات التي يوظفها الغرب لإحكام هيمنته على رقاب و ثروات الشعوب التي يستهدفها. و جدير بالذكر أن أفكار سعيد و دراساته التفكيكية للأيديولوجيات الامبريالية الغربية قد أثرت كثيرا على العديد من مثقفي العالم الثالث و لعبت دورا عظيما في نشأة و تطور ما أصبح يعرف بالنظريات و الخطابات المابعد- كولونيالية Post-colonial theories and discourses. كما أن منهجه النقدي الذي أسماه الناقد روبرت يونغ ب”تحليل الخطاب الاستعماري”colonial discourse analysis ـ هذا المنهج الذي ساهم في تأسيسه ثلة من الباحثين الطليعيين الآخرين من أمثال هومي بهابها Bhabha .H و كياتري سبيفاك Spivak.G [xxi][21]ـ صار يستعمل كمِعوَل فعال لهدم و مساءلة البنيات الايديولوجية و الإسقاطات العنصرية التي تقوم عليها سرديات و خطابات المركزية الغربية. لكن يجب التذكر دائما بأن هذا المفكر و المناضل الفذ لم يكن معنيا بهدم تلك الخطابات و تفكيكها من أجل الهدم فقط، بل كان يهدف بالأساس إلى تحرير العقول و تحرير الأوطان من رواسب و مظالم الاستعمار في شكليه الكلاسيكي و الحديث على السواء. كما أنه كان يسعى على الدوام من خلال مشروعه إلى بناء حوارات ثقافية و حضارية هادفة تؤمن بتجاوز الثنائيات المختلَقة و الأيديولوجيات المغرضة التي تكرس الصدام و التوتر الدائم بين الشرق و الغرب بشكل خاص، وبين هذا ’المركز‘ و ’هوامشه‘ بشكل عام.

هوامش:

انظر [i][1]

Mustafa Marrouchi, « Counternarratives, recoveries, refusals » in Edward Said and The Work of the Critic: Speaking Truth to Power, ed. Paul A. Boué [Durham and London: Duke university Press, 2000], p. 189.

نفس المصدر، ص.188 [ii][2]

[iii][3] إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أيوب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1984، ص: 58.

الاستشراق، ص: 38. [iv][4]

[v][5] الاستشراق، ص: 37.

الاستشراق، ص: 39.[vi][6]

الاستشراق، ص: 41. [vii][7]

[viii][8] الاستشراق، ص: 45.

[ix][9] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، الطبعة 1، 1997، ص: 57.

[x][10] الثقافة والإمبريالية، ص: 58.

[xi][11] إدوارد سعيد “نافذة على العالم”

‘A window on the world’ , Gardian unlimited books Review . August 2, 2003.

الاستشراق، ص: 53.[xii][12]

محمد الكوش، ’الثابت و المتحول في الخطاب الاستشراقي بعد أحداث 11 شتنبر‘، الخطاب الاستشراقي [xiii][13]

في أفق العولمة، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بوجدة، رقم 76، الطبعة الاولى، 2003.

نظر مثلا مقالتها:[xiv][14]

‘ أو خطابها:Promise of Democratic Peace’, December 11, 2005, Washingtonpost.com.

‘Liberty, Democracy Best Antidotes to Hatred & Terrorism’, March 9, 2006, USINFO.STATE.GOV.

الإستشراق، من ص 80 إلى ص 100[xv][15]

منذ أيام تقرير عن الكونغريس الأمريكي أكد بأن حرب أمريكا على الإرهاب فاقمت من تفشي ظاهرة صدر [xvi][16]

على شبكة الإنترنيت:New York Time الإرهاب في العالم. انظر موقع

‘Report Stirs Debate on Terror Fight’, September 24, 2006.

الإستشراق، ص 285.[xvii][17]

Covering Islam انظر ص 12 و ص 51 من كتاب تغطية الاسلام لادوارد سعيد، النسخة الانجليزية : [xviii][18]

How the media and the Experts Determine How We See Rest of the World

Routledge. 1981 London:

على الرغم من أن الحديث عن الاستشراق الأمريكي مركز في هذا العرض أساسا على لغة الاعلام و [xix][19]

تصريحات بعض الساسة فانه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الخطابات موجود أيضا في الكتابات الأدبية لبعض المستشرقين. ففي كتابات بول بولز مثلا ـ و خاصة في رواية بيت العنكبوت و في نص احدى رحلاته المعنون

ـ نجد كثيرا من عبارات التحامل الاستشراقي على الإسلام و المسلمين. و ‘A Man Must Not Be Very Moslem’

في إحدى استجواباته الصحفية صرح بان حضارة المسلمين “حضارة بربرية بالأساس.” أما عقليتهم فهي عقلية الغزاة الخالصين. “إن تطلعاتهم السياسية…شاذة و غير معقولة، وإذا تحققت فسيكون تأثيرها كارثيا على بقية العالم. انظر:

Harvey Breit. “Talk with Paul Bowles”. Conversations with Paul Bowles. Ed. Gena Caponi.( Jackson. University Press of Mississipi. 1993) p. 4.

على سبيل المثال، لقد برهنت الصور التي تسربت من سجن ابو غريب، والتي أظهرت بعض السجانين الأمريكان [xx][20]

يهينون و ينكلون و بالأسرى العراقيين|(و معظمهم عراة)، مدى وحشية و سادية و لاإنسانية هؤلاء الغزاة الحاملين للواء ’الحظارة‘ و’ الحرية‘.

انظر الفصل السابع من كتاب: [xxi][21]

Robert Young. White Mythologies. Writing History and the West (London. Routledge. 1990).