في إطار الزيارة التي قام بها إلى مدينة وجدة كل من الدكتور محمد بابا عمي من الجزائر و الدكتور نوزاد صواش من تركيا ، احتضن مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ندوة أطرها الضيفان المذكوران يوم السبت 15 رمضان 1433 الموافق 04 غشت 2012 ابتداء من الساعة العاشرة ليلا، وكان محورها العام :” التجربة التركية في النهضة الحضارية”.
وبعد الافتتاح بآيات من الذكر الحكيم، وبعد التقديم الذي تفضل به الدكتور ماء العينين محمد الإمام بتعريفه بالضيف الجزائري الدكتور محمد بابا عمي الحائز على الدكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي، ومدير معهد المناهج بجامعة الجزائر، والدكتور نوزاد صواش الباحث والمفكر، المشرف العام على مجلة حراء بتركيا، تناول الكلمة الأستاذ محمد بابا عمي مستهلا بخاطرة سماها ” نفحة من المغرب الحبيب “، وبحسرة بادية أومأ إلى المغرب بعبارات حب كأنها حب العاشق المنكسر، فرآه البلد القريب البعيد(…) الذي يأويك ويطعمك ويسقيك ويعتذر لك والذي يقدم الخدمة الإيمانية ( في أجواء رمضان الكريم ) باعتبار أهله إخوة منذ الأزل يجتمع فيهم الدفء والحنان ويتلمس فيهم وحدة الغاية والرسالة والهدف…
ثم شرع في مداخلته بعنوان : ” السؤال الصغير الكبير ” ليورد في مجموعة استفهامات متتالية لا تخلو من حيرة حول المفارقة التي نحياها والتي تأبى أن تجتمع أو تتوافق، والمتمثلة في العلم والمعرفة و”الكنز” الذي يحويه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من جهة، والفعل المنعدم من جهة ثانية.. ليسترسل في الأسئلة “الصغيرة الكبيرة”، ماذا بعد الفكر ( الكتابة، البحث، المقال…)؟، لماذا الواقع مختلف عما يصدر عن الفكر (؟؟؟)، لماذا نعيش في جزر متباعدة(…) ؟ ليضيف بأنه انطلق للسفر مع هذا السؤال الصغير الكبير المتضمن للسؤال العميق الدقيق جدا عن الواقع المستورد من جهات أخرى .. !، فزار مجموعة من البقاع واطلع على مختلف التجارب بالسودان وسـوريا والأردن ( بلاد الشام عموما)، ثم مصر وإيران لينتهي بشيء من خيبة الأمل، ثم ليرحل لاستطلاع تجربة ماليزيا وموسوعة “ماهاتير محمد”… وبعدها جاء السفر إلى تركيا ذات التجربة المركبة ليستقر ” بين يدي ” الأستاذ فتح الله كون الذي صدر له أكثر من ثمانين عنوانا بالتركية، ترجم له منها ثلاثة عشر فقط إلى العربية، هذا العالم الذي رآه مدرسة بحق منذ أواسط الستينيات إلى الآن، رجل معطاء صاحب خلق استطاع أن ينشئ مدارس واستطاع أن يوجه في التعليم والصحة والاقتصاد، ليخلص المحاضر إلى القول بأن الأتراك استطاعوا أن يكونوا ” أرباب مستوى ” بمعنى أنهم استطاعوا أن يجمعوا ويمزجوا بين الفكر والفعل، وليخلص أيضا إلى أن الإسلام دين الكبار.. دين الأمة.
إثر ذلك، أعطيت الكلمة إلى الأستاذ نوزاد صواش الذي عبر في البداية عن سعادته بوجوده بالمغرب وبمدينة وجدة تحديدا، ذاكرا أنها المرة الرابعة له بهذه المدينة، ثم انطلق في مداخلته بعنوان : “الجوانب الاجتماعية في التجربة التركية” بالإشارة إلى أن الأستاذ محمد بابا عمي لخص “القصة” بحرقة، وليلفت إلى أن التجارب الناجحة لا تأتي بين يوم وليلة أو حتى خلال بضع سنوات قليلة بل لابد من عمل جاد منظم صـــادق هـــادف يمتد إلى عشرين سنة على الأقل أو ثلاثين إلى أربعين سنة، على أن تتركز على تكوين الإنسان العقلي والقلبي والسلوكي، وفي ذات الآن تكون القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هدفا استراتيجيا.
وفي معرض بسطه الحديث، ركز على “المحاضر التربوية” ذاكرا أن محمد فتح الله كولن استطاع أن ينجز تجربة ناجحة وسط أمواج عاتية مستندا إلى الحكمة القرآنية، مؤكدا أن الطريق كانت شاقة ومضنية قبل أن تصل التجربة التركية إلى ما وصلت إليه من الخير العميم، ومؤكدا أيضا أنه لا يمكن أن يوجد عمل طيب خيري إلا عندما تهزم الأنا، وهذا ما أدركه واعتمده محمد فتح الله كون وانتهجه تأسيسـا على مبدأ : “… رهبانا في الليل، فرسانا بالنهار..”.
وانتقل للحديث بنوع من التفصيل والإسهاب عن سر نجاح التجربة التركية حين ذكر المدرسة التركية وفكرة إنشاء مدارس خاصة تركية ، مدارس نموذجية تركز على العلم والخلق واللغات والثقافة التواصلية حتى بلغت ما يقارب ألف (1000) مدرسة،وقد كانت أول مدرسة سنة 1980 وبلغ نجاحها حدا جعل الدولة/ الحكومة تقتدي بها إذ الفصول لا يتعدى الطلبة بها عشرين(20) إلى أربع وعشرين(24)، وتشارك في مسابقات علمية عالمية بأربعين طالبا على الأقل ( بعد التصفيات) ـ تصفيات صارمة… ـ، هذه المدارس تحتضن الإنسان من مرحلة الروض حتى نهاية الثانوي وتبلغ من مستوى الجودة ما لا يمكن للمدارس الأجنبية المتواجدة بالبلد منافستها…( !)، هذه المدارس أسسهـا أناس متدينون استطاعوا الرفع من مستوى التربية والتعليم بل رفعوا من مستوى المدرس .. إذ المدرس مستواه عال محترم، وحسنوا صـورة المسلم الذي بات ابن عصره، يتقن مختلف العلوم ويلم باللغـــــــــات…
بل إن المدارس التركية امتدت إلى دول مختلفة، بأستراليا، ورومانيا، ونيجيريا، وأثيوبيا، وجنوب افريقيا (كيب تاون بها عشرين(20) مدرسة) واستطاعت أن تحصل على مائتين وستة وخمسين(256) ميدالية ذهبية، وفي العراق اثنين وعشرين(22) مدرسة وجامعة ( في الموصل، وكركوك، وبغداد، والبصرة…)، وفي أوسلو أيضا توجد مدارس تركية.
والقناعة راسخة لدى القائمين على هذه المدارس بأن بناء الإنسان يؤدي إلى بناء كل شيء.
هذا، وبعد انتهاء المداخلة فتحت باب الأسئلة والمناقشة أمام الحاضرين.