مقدمة:
هناك كتابات كثيرة ودراسات عديدة تناولت الحضارة وقضاياها من حيث التاريخ والانتشار والتطور والازدهار ثم الانحطاط والتدهور وأسباب ذلك، فتنوعت هذه الدراسات والأبحاث، منها ما اقتصر على الحضارة الغربية وما عرفته من نشأة ونمو، وما لحقها في عصور الظلام من تدهور وفتور ثم استيقاظها من جديد وبعثها في حلة مزهوة، فغزت العالم وسيطرت على كل نواحيه مثبتة قوتها وبطشها، ومحاربة ما سواها من الحضارات، والحضارة الإسلامية خاصة، ومنها ما اقتصر على إبراز أسس الحضارة الإسلامية وإخراج رجل الإسلام من التخلف والجهل إلى التقدم والنور ثم تراجعها بتخلي المسلمين عن مصدر قوتهم ومنبع إصرارهم، ومنهم من تناولهما معا مغلبا إحداهما على الأخرى، مقارنا بينهما فمن هذا الاتجاه نمطان، نمط رأى في الحضارة الغربية الأنموذج الأمثل والسبيل المحتذى، وأغلب هذه الدراسات غربية حطت من قيمة الحضارة الإسلامية، ورأت في هذا الدين التخلف والانحطاط. وأن جنس العرب ومن تبعهم جنس ناقص، وساندهم بعض مفكري العرب. ونمط تناول الحضارة الإسلامية وأبرز قوتها وأهميتها ومساهمتها في إخراج الناس من الظلمات إلى النور بجهود رجالات القرون الأولى، وتمسكهم بمصدر تشريعهم ومنبع قوتهم، وهو القرآن الكريم، ثم تراجعهم بتخليهم عما تمسك به سلفهم فانحطوا وانحطت حضارتهم وأصبحت في خبر كان. وعللوا سبب ذلك بأسباب متعددة، منهم من فصل الحديث وصال وجال، ومنهم من اختصر واقتصر وأوجز.
ولم يكن مالك بن نبي بعيدا عن أوضاع المسلمين أو غافلا عنها أو مشغولا بقضايا أخرى، وإنما كانت شغله الشاغل، لذلك تميزت دراسته لهذا الموضوع بالحكمة والرزانة والتعمق في القضايا وتتبع أسباب الداء لمعرفة الدواء، والوصول إلى مصدر المرض واستئصاله من جذوره. فهو من النوابغ الذين خرجوا بأفكار ناضجة ومتكاملة حول مشروع الإقلاع الحضاري مهتديا بخطى الإسلام، ومستفيدا من ثقافة العصر الحديث، فقد تحدث عن الصراع الذي تعرفه الحضارة الإسلامية من حيث هجوم الأعداء للقضاء عليها ومحو أي انتساب لها وما قدمته للإنسانية جمعاء منذ انبعاثها إلى اليوم، فاهتم بأفكار البناء وغلبها على أفكار الهدم، لأن ذلك أصلح للأمة الإسلامية، وانطلق في سعيه لإيجاد مخرج للتراجع الحضاري من فكرة أساسية، هي أن أي نهضة لمجتمع ما إنما تتم في الظروف نفسها التي شهدت ميلاده، وعلى هذا فإن إعادة بناء المجتمع إنما يجب أن تنشأ استنادا إلى البعد الديني كأداة لكل تغيير محتمل[i][1]. فكانت أفكاره أشبه بالوصفات الشافية القافزة فوق حواجز الزمان والمكان، وفي إطار كلي بعيد عن التجزئة والتفتت.
وفي الغرب علا صوت المفكر الناقد المنظر الأدبي اليساري العلماني الذي يصعب حصره في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفه وفق مذهب بعينه؛ لأنه أنموذج دائم للمثقف الدائم الاشتقاق ممن يعيش على نحو جدلي ويدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل،ويخضع ملكة التفكير لنظام معرفي ومنهجي مركزي هو النقد، إنه المفكرالعربي المسيحي العلماني إدوارد سعيد (1935-2003) الذي دافع عن المسلمين والعرب وواجه الفكر العلماني وجميع أصحاب النظريات والآراء التي تهاجم الإسلام والمسلمين، ولم يخف أو يتوان بل تحداهم في عقر دارهم فقد وظف حياته وتجاربه وعلمه من أجل مكافحة الهجوم الغربي بكل أشكاله وألوانه على الإسلام وحضارته، فلم يكن طائفيا أو عنصريا، وإنما دافع دفاع المستميث المقتنع بمبدئه.
لقد نشأ إدوارد سعيد وترعرع في أحضان الحضارة الغربية وتشرب فكرها دون أن تدخله إلى حظيرتها الهالكة والمهلكة فأخذ من إرثها الصالح وأحجم عن الطالح، كشف القناع عن دعائم جبروتها الاستعماري وقدمه للعالم في منظور جديد يعتمد على المنطق والحجة، قاضى الغربيين في عقر دارهم، وأثبت أن الحضارة الإسلامية أشرف وأقدس حضارة فوق هذه الأرض ففند دعائم الغربيين وكذبهم في تشويه الإسلام وأسسه، فجاء تناولي لهذا الموضوع على الشكل الآتي:
– نور الحضارة الإسلامية
-الحضارة الغربية في الميزان
– تجليات الصراع الحضاري عند مالك بن نبي وإدوارد سعيد
– مستقبل الحضارة الإسلامية بين مالك بن نبي وإدوارد سعيد
-خلاصة
فالله أرجو أن أوفق في إبراز جوانب هذا الموضوع وأثبت جهد الرجلين في دفاعهما عن حضارة آخر ديانات رب الأرباب وخالق المخلوقات وما جاء به لهذا الإنسان الجهول الذي تحمل أمانة رفضت كل المخلوقات حملها لثقلها وأهميتها. فهل استطاع أن يصونها كما أمر؟ أو أنه تكبر وتجبر وخلق صراعا مع نفسه أولا ثم مع غيره ثانيا؟. فكل من المفكرين تناول القضية نفسها بشكل مميز ومختلف ونظر إليها من زاويته وثقافته ثم وسائله الفكرية لمواجهة الخصم ورد ادعاءات العدو.
· نور الحضارة الإسلامية
لقد تحث كل من مالك بن نبي وإدوارد سعيد أن الحضارة أعمق دلالة وأرحب أفقا وأبعد مدى في التعبير عن الروح التي تسري في مجتمع من المجتمعات، فهي تنشأ من تفاعل ثقافات متعددة، ويشارك في صياغة ملامحها وتشكيل خصائصها شعوب من أعراق شتى تنتمي إلى ثقافات متنوعة حيث تعددت أصول هذه الثقافات ومشاربها ومصادرها فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائصها التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القائم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعا. ولكل حضارة مبادئ عامة تقوم عليها، تنبع من عقيدة دينية أو من فلسفة وضعية، حتى وإن تعددت العقائد والفلسفات، فإن الخصائص المميزة تستمد من أقوى العقائد رسوخا وأشدها تمكنا في القلوب والعقول ومن أكثرها تأثيرا في الحياة العامة، بحيث تصطبغ الحضارة بصبغة هذه العقيدة وتنسب إليها[ii][2]. والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي ومنها ما يسوده التوازن بينهما[iii][3]. فهي إذن سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تترك المجال لحضارات أخرى، مما جعل بعضهم يذهب إلى القول بوجود التماثل والتطابق بين الكثير من هذه الحضارات.[iv][4]
وقد ميز كل منهما أسس الحضارة الإسلامية باعتبارها إرثا مشتركا بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كونت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجها المحكم، فهي نتاج لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام سواء إيمانا وتصديقا واعتقادا، أو انتماء وولاء وانتسابا، وهي خلاصة لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمة في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، وانصهارها في بوثقة المبادئ والقيم والمثل التي جاء بها الإسلام هداية للناس كافة.
فالحضارة الإسلامية إذن ليست حضارة جنس معين فتكون بذلك حضارة قومية تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارة جامعة شاملة للأجناس والقوميات جميعا التي كان لها نصيبها في قيام هذه الحضارة، وازدهارها وتألقها، وامتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي سطع فيه نجمها واتسع إشعاعها وامتد نفوذها.
فعلى هذا الأساس تكون الحضارة الإسلامية نوعين: حضارة إسلامية أصيلة وتسمى حضارة الخلق والإبداع وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام.
وحضارة انفرد بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادا وتحسينا كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتسمى حضارة البعث والإحياء[v][5]، فقد استجابت الحضارة الإسلامية للحاجات البشرية عبر العصور، وكانت حضارة عالميا دون منازع لعقود كثيرة، فقد كانت صاحبة الفضل في إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوربية الحديثة حيث أسهمت بكنوزها في الطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفيزياء وساهمت في الإسراع بعصر النهضة وما صحبه من إحياء للعلوم المختلفة لم يقف عند حد، بل استمر في عطائه، ومازال يثمر إلى اليوم[vi][6].
وميز كل منهما سمات الحضارة الإسلامية بخمس خصائص تكسبها الطابع المميز لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء، وهي:
*أنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية فاستوعبت مضامينها وتشربت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارة توحيدية انطلقت من الإيمان بالله الواحد، الأحد، خالق الإنسان والمخلوقات جميعا، هي حضارة من صنع البشر فعلا، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها.
*ثم هي حضارة إنسانية المنزع في آفاقها وامتداداتها، لا ترتبط بإقليم جغرافي، ولا بجنس بشري، ولا بمرحلة تاريخية، ولكنها تحتوي جميع الشعوب والأمم، وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع، فهي حضارة يستظل بظلالها البشر جميعا، ويجني ثمارها كل من يصل إليه عطاؤها، فالحضارة الاسلامية قامت على أساس الاعتقاد بأن الإنسان أفضل مخلوقات الله، وأن جميع الأنشطة البشرية لابد أن تؤدي إلى سعادته ورفاهيته، وأن كل عمل إنساني يقصد به تحقيق هذه الغاية، هو عمل في سبيل الله .
*وكذلك هي حضارة معطاء، أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم، وأعطت عطاء زاخرا بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي المتسم بالخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدة الإنسانية جمعاء، لافرق بين عربي وعجمي أو أبيض أوأسود بل لافرق بين مسلم وغير مسلم إلا بالتقوى، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية أم ممن لادين لهم من أقوام شتى كانوا يعيشون في ظل الحضارة الإسلامية .
*وهي أيضا حضارة متوازنة، وازنت بين الجانب الروحي والجانب المادي، فالاعتدال هو طابع من طوابع الفكر الإسلامي، وميزة من مزايا الحضارة الإسلامية في كل العصور، فلا إفراط ولا تفريط، ولاغلو بغير وجه حق، ولا اندفاع في تهور، وإنما هو اعتدال من صميم العدالة التي تقام في ظله موازين القسط.
*وأخيرا هي حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين الحنيف، وهي بذلك حضارة ذات خصوصيات متفردة ، فالحضارة الإسلامية لا تشيخ لتنقرض، لأنها ليست حضارة قوية ولاهي بعنصرية، ولاهي ضد الفطرة الإنسانية، والإسلام ليتمثل في المسلمين في كل الأحوال، لأن المسلمين قد يضعفون ويقل نفوذهم ويتراجع تأثيرهم ولكن الإسلام لايضعف ولا يقل نفوذه ولايتراجع تأثيره وهي بذلك حضارة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتتجدد دوراتها.
فلقد قادت الحضارة الإسلامية مسيرة العلم والمعرفة في القرون الوسطى التي كانت أروبا خلالها تغرق في عصور الظلام، بينما هي عصور التنوير في تاريخ أمتنا، وقد اكتسبت هذه الحضارة طابع الديمومة والاستمرار من الدين الحنيف، لأنها نابعة منه، ولصيقة به، وهي بذلك بمثابة الجوهر النفيس الذي لايتبدل ولا يتغير، وإن تبدلت الأحوال، وتجاذبت المجتمعات الإسلامية نوازع القوة والضعف والسطوع والأفول، والتماسك والانهيار وتخاذل المسلمون واستهانوا بدينهم وجعلوا أثرهم المجيد تحت أقدامهم، وساروا على نهج الحضارات الغربية الفانية التي تدعي الرقي والازدهار، وتفخر بكل ذلك، وتنكر جهود ومساعي ما سواها من الحضارات و الحضارة الإسلامية خاصة، في زمن استطاعت الدولة الإسلامية أن تجلجل الأرض من الشرق الوسط إلى غرب المحيط الأطلسي بعد أن سطع نجمها وأشرقت شمسها منذ أمد الآمدين.فلكي تعود الأمة الإسلامية إلى هذه الحال يلح كل كل من المفكرين ضرورة تغيير هذه الأمة وإحيائها لإعادة هذا الازدهار، وهذا التعمير، وإعلاء كلمة الإسلام وسماته الحضارية بنفض الغبار عنه ومحو أثر الذل والهوان، والاستيقاظ من النوم العميق الذي تغرق فيه الأمة الإسلامية للنهوض بحضارتها وتبليغ رسالتها الخالدة باعتبارها حضارة البطولة لا حضارة الغزو وحضارة الرقي والرفاهية لا حضارة الاختناق والسطو.
· سمات الحضارة الغربية
ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أروبا أو حديثة كما يتوهم كثير من الناس، بل يرجع تاريخها إلى آلاف من السنين، فهي منبع الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية وحضارات أخرى خلفتها في تراثها السياسي والعقلي والمدني، وورثت عنها كل ما خلفته من ممتلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية، وتراث عقلي وعملي، وانطبعت فيها ميولها ونزعاتها وخصائصها، بل انحدرت إليها في الدم، فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع حفظه التاريخ للعقلية الأروبية، وأول حضارة سجلها التاريخ قامت على أساس الفلسفة الاروبية تجلت فيها النفسية الأروبية وعلى أسها قام صرح الحضارة الرومية روحا واحدة هي الروح الأروبية وظلت الشعوب الأروبية طيلة قرون محتفظة بخصائصها وطبيعتها، وارثة لفلسفتها وعلومها وآدابها وأفكارها حتى برزت بها في القرن التاسع عشر في ثوب براق يوهمك بطلاوته وزهو ألوانه أنه جديد النسيج ولكن لحمته وسداه من نسج اليونان والرومان[vii][7].
ويقتضي الإنصاف أن نقول ابتداء أن الحضارة الغربية ٍٍٍٍٍٍٍلا تخلو من جوانب إيجابية تنفع الأنانية ففي هذه الحضارة فوائد كثيرة للإنسان في حاضره ومستقبله، كما أن لها أثارا إيجابية تلتقي فيها مع جوانب مشرقة عديدة من الحضارة الإسلامية. لقد استطاعت الحضارة الغربية-بتقدم العلوم الرياضية والطبيعية وتطبيقاتها التكنولوجية-أن تمنح الإنسان قدرات وإمكانات لم يمنحها أحد قبله، وما كان يحلم بها باله أو يجول بها خاطره، وأن توفر له بذلك وسائل وأدوات وأشياء لم تكن تتهيأ لأحد من قبله. لقد اختصرت الحضارة الغربية للإنسان المسافات، فقربت له المكان ووفرت له الزمان، عن طريق المواصلات الحديثة وتطوير هذه الوسائل بصورة مستمرة حتى غدا العالم قرية كبرى. لقد وفر عصر الصناعة الأول بواسطة الآلة (المجهود البدني) للإنسان، ثم جاء عصر الصناعة الثاني الذي أصبحت فيه الآلة توفر (المجهود الذهني) إنه عصر الحاسوب الذي بات يقوم بعمليات معقدة هائلة، وقد استفادت منه الحياة العلمية في كل أنحاء العالم بما فيه الحضارة الإسلامية فدخل في علوم القرآن والحديث واللغة وعلومها وآدابها وغير ذلك من العلوم الإسلامية[viii][8].
وميزة الحضارة الغربية أنها لا تقف جامدة إنها تنتقل من طور إلى طور وأعطت الإنسان الحوافز التي تدفعه إلى الابتكار والإنتاج وصنعت المناخ النفسي والعقلي الذي يشجعه على المضي، وهيأت له الإدارة الحسنة التي تساعده على إتقان عمله، فتكافئ المحسن وتعاقب المقصر والمنحرف، كما هيأت له مجتمعا ترعى فيه حرية الإنسان الفرد وحقوقه الفطرية وتصان فيه حرماته في مواجهة حكم الظلام، وبهذا شعر الإنسان بكرامته وقيمته، وتحرر من الخوف والذل فأنتج وأحسن وأفاد[ix][9].
هذه هي الجوانب الحسنة في الحضارة الغربية، وكلها تتعلق بالوسائل والأدوات والآلات التي يستخدمها الإنسان، وهي سلاح ذو حدين، يمكن أن يستعمل في الخير وأن يستعمل في الشر، وتقارب العالم الذي عبروا عنه بالقرية، ليس خيرا محضا، بل ربما جلب وراءه شرا كثيرا، فهذه حضارة الوسائل والأدوات لا حضارة المقاصد والغايات.
وهذه الحضارة لا تخلو من السلبيات، فهي لا تتفق والتعاليم الدينية والخلقية الفاضلة والمبادئ الإنسانية التي تهدد الحضارة الإنسانية بأوخم العواقب، فهي تسبب الأزمات والنزاعات والتطاحنات، وتذكي الصراع بين الدول، وتقوي نوازع الشر بين البشر، وتفسد تقدم العلوم والمعارف وازدهار الآداب والفنون، وتقوض دعائم الحضارة من الأساس[x][10].
وتتمركز سمات الحضارة الغربية فيما يأتي:
*الغبش في معرفة الألوهية، فليست رؤية الفكر الغربي الذي قامت عليها الحضارة الغربية، رؤية صافية تقدر الله حق قدره، وإنما هي رؤية غائمة مضطربة.
*النزعة المادية وهي التي تؤمن بالمادة وحدها لتفسير الكون والمعرفة والسلوك وتنكر الغيبيات، وكل ما وراء الحس.
* النزعة العلمانية تلك النزعة التي تفصل الدين والحياة الاجتماعية.
* الصراع فهي حضارة تقوم على الصراع، لا تعرف السلام ولا الطمأنينة ولا الحب، إنه الصراع بين الإنسان ونفسه وصراع الإنسان والطبيعة، وصراع بين الإنسان والإنسان وصراع بين الإنسان والإله.
*الاستعلاء على الآخرين: وهي نزعة تسري وتتحكم في عقول الغربيين، فهم يعتبرون أنهم أفضل من غيرهم، وأن الحضارة الغربية هي الحضارة الإنسانية ولا يعترفون بحضارة سواها[xi][11].
تلك هي السمات التي تطبع الحضارة الغربية سواء في عهدها القديم أو عصورها الحديثة إلا أنه رغم ذلك فقد غض الطرف عن سلبياتها وأصبح ينظر إليها نظرة المعجب المبهر إلى درجة عجز كتاب الشرق المسلمون والمفكرون عن مواجهتها وجها لوجه، ونقد أسسها وقيمها نقدا حرا جريئا فيه الابتكار والاستقلال، وقد بلغ ببعضهم من ضعف التفكير والإغراق في التقليد منزلة رأى فيها أن الحضارة الغربية هي آخر ما وصل إليه العقل البشري وأنه لا منزلة وراءها، ومنهم من دعا إلى تطبيقها برمتها، وعلى علاتها ودعا بعض الأقطار الإسلامية العربية إلى اعتبار نفسها جزءا لا يتجزأ من القارة الأوربية، وإذابتها فيها واختيار الثقافة اليونانية التي هي أصل الثقافات الأروبية[xii][12].
وهذا ترديد لمقولة الفكر الغربي الذي حاول طمس أثر الحضارة الإسلامية وإخفاء معالمها وتأثيرها في كل مناحي الحياة الإنسانية منذ أن أخذت أوربا مشعل التقدم العلمي، وأطفأت شمعة سواها من الحضارات والحضارة الإسلامية خاصة، يقول ه. بيرين(h.pierre) “1935” “[xiii][13] على ضفاف بحرنا تمتد من الآن فصاعدا حضارتان مختلفتان ومتعاديتان”.
*تجليات الصراع الحضاري بين مالك بن نبي وإدوارد سعيد
إلى حدود القرن 8 وبعد أن كانت راية الإسلام ترفرف فوق ساحات شاسعة تربط آسيا بالمحيط[xiv][14] كانت المسيحية الغربية محصورة في آفاق ضيقة ظهرت آنذاك الفتوحات الإسلامية بمثابة عدوان غير مبرر. ومن الطبيعي أن يؤدي رد الفعل الدفاعي إلى وصف المعتدي بأوصاف سلبية فهم مدمورن للمدن نهابون خاطفون نخاسون شهوانيون ماديون كما يؤكد ذلك فيليب سيناك. وهكذا تبلورت الصورة الأولى للإسلام والمسلمين في الغرب استنادا إلى تجربة أولية تناقضية بشكل واضح، وهي بالطبع واقعية إذا ما نظرنا إلى اتساع الرقعة التي تم فتحها على مدى بضعة عقود، لكنها صورة جزئية مع ذلك لأن الشعوب المغلوبة لم تكن ترى غير الوجه الآخر لحضارة غربية لا الحقيقة الإسلامية في كمالها[xv][15]، لم يكن للإسلام أي أثر في تلك الصورة ففي تلك الأزمنة لم تكن النظرة إلى العرب المسلمينsarrassins لتعتبرهم أتباع دين معين، بل مجرد خصوم عسكريين، فكانت العبارة الشائعة لوصفهم هي أمة العرب sarrassins الغدارة، كما استعملت أيضا عبارة Maure في وصف القائمين بالهجمات البحرية، وسمي المسلمون في ق9 وفي إيطاليا بخاصة بالإسماعليين أو الوثنيين. وفي القرن 10 سماهم الراهب فلودوارflodward بالأمة النهابة أو البرابرة فالواحد من هذه الأمة عربي محارب وثني مشرك. وذلك بالنظر إليه نظرة مركزوية تكمن في إنكار أي إحساس ديني لدى الشعوب المختلفة في إيمانها عن المسيحية[xvi][16].ويرى montogomery أن معرفة الإسلام كانت حتى مرحلة الحروب الصليبية ق 11-13م متشعبة بالأخطاء فقد كانت تصور العرب sarrasins كعبدة أوثان يقدسون محمد صلى الله عليه وسلم، بينما كان محمد صلى الله عليه وسلم في نظر بعضهم ساحرا، بل الشيطان نفسه[xvii][17]. ويشير مونتغومري من جهته إلى أن الأوربيين بمواجهتهم الإسلام كانوا يدعون خوض حرب النور في وجه الظلمات ويضيف بشيء من السخرية نفهم اليوم أن الظلمات المنسوبة إلى العدو اليست غير إسقاط للظلمات التي تلفنا والتي نود إنكار وجودها، وبهذا الصدد يجب اعتبار الصورة المشوهة للإسلام كإسقاط للجانب المظلم في الشخصية الأوربية[xviii][18]. ومع أن الحضارة الإسلامية بلغت درجة فيعة من التطور ما بين ق 8و14م يجهلها العقل الغربي كليا إلا أن صورة تحقير هذا الدين وحضارته باتت تؤرق الغرب إلى درجة بشعة حيث وصف الإسلام بأنه دين هجين سينهار من تلقاء ذاته. وأنه متعصب استبدادي يتناقض مع الغرب[xix][19]. واستمر هذا إلى حدود ق 19 حيث تجدد ما قيل في نحقير المسلم ونفض الغبار عنه ليقدم في حلة جديدة لا ينتبه إليه، فقد انقلبت موازين القوة وأصبح العالم العربي والإسلامي ضعيفا هزيلا لا حول له ولا قوة مكروها محتقرا، وأن سلفه من العلماء والمفكرين لم يفعلوا شيئا سوى ترجمة الموسوعية اليونانية، لذلك فهم عرق ناقص كما عبر عن ذلك أرنست رينان وتبعه في ذلك سيافستر دي ساسي وشاتوبريان وجيرار دي نيرفال وغيرهم، وهذاالجنس لا ينتمي إلى الكرامة التاريخية فهو موضع احتقار، يقول هيغل[xx][20]:” اختفى الإسلام منذ زمن طويل من التاريخ الكوني ودخل في فتور وهدوء الشرق” وعلى هذا يعلق تييري هنتش[xxi][21]” لا يحقد هيغل على الإسلام، لأن أفضل ما كان في الحضارة الإسلامية قد انتحله الغرب من الآن فصاعدا” فأصبح العالم الإسلامي مختلفا فحاول الغرب بذلك خلق عالم أسطوري سماته ثابتة تحدد بمقابلتها بسمات الغرب الإيجابية والمتحركة، يقول جورج قرمcorm[xxii][22] أن العالم الإسلامي أصبح :” مرآة فيها تستطيع أوربا أن تتأمل تفوقها بشكل أفضل” ويقول هشام جعيط:” وجد العالم أخيرا محوره لأن القوة والثقافة تتطابقان الآن مع الحقيقة ولم يعد الشرق مصدر تهديد بل صار موضوع فضول تتعدد الرحلات لاكتشافه”.
فالإحساس بالتفوق في الغرب جعل كل العالم غير العربي بلا قيمة ومجردا من الكرامة التاريخية ومحولا إلى مستوى طرفي وفولكلوري وتشكل صورة هذا العالم عنصرا أساسيا في المركزية الأوربية. فحاول مالك بن نبي بتحليلاته وآرائه الإصلاحية من داخل المجتمع الإسلامي أن يصحح هذه المقولات ويخطئ هذه الشائعات التي تحط من الإسلام أولا وحضارته ثانيا ومعتنقيه ثالثا، وتحث محبيه على ضرورة الدفاع عنه والحفاظ عليه وذلك بإصلاح النفس ثم الغير حتى يتم التآرز والتآخي والسير وفق منهج السلف الصالح صانعي هذه النهضة انطلاقا من قوله تعالى(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فهو يسير على نهج ابن تيمية في إصلاح النفس أولا لينتقل الإصلاح إلى الآخر فيعم المجتمع كله يقول[xxiii][23]:” يجب أن ندرك أوضاعنا وما يعترينا من عوامل الانحطاط وما تنطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة”وبذلك أحطنا تراثنا وإرثنا المجيد بحصن منيع لا تتسرب إليه يد الغدر أو الخداع للنيل منه.
والفكرة نفسها تناولها إدوارد سعيد بمنهج مختلف حيث كان نقده اللاذع لحال المسلمين أولا ثم لكل من مس الدين الحنيف وحضارته الخالدة ثانيا جاعلا من الكلمة القوية والقلم الجرئ سلاحه فكان دفاعه ينطلق من إيمانه بالحق وتبصره به للقضايا ووضع الأمور في نصابها دون انتماء أو انتساب فهو علماني مسيحي إنسي، حداثي استطاع بقوته وحنكته اللغوية وتحليلاته العقلية والمنطقية أن يدافع عن هذه الحضارة ويدعو إلى تحريك همم المسلمين في كل مكان لحصنها ورد الهجوم العنيف الذي مورس ويمارس عليها منذ امد الامدين أي منذ أن خمل المسلمون وناموا دون وضع منبه للاستيقاظ في وقت معين فقد وجد في هذه الحضارة بعد اطلاع واسع وتعمق شديد وقراءات متنوعة واصطدام عنيف مع الأعداء ما لم يجده في حضارات أخرى فأحبها وكرس حياته وعلمه لإبراز مكانتها وأهميتها.
* مستقبل الحضارة الإسلامية بين مالك بن نبي وإدوارد سعيد
إن الهدف من كل الجهود الحضارية هو النهوض بالإنسان نفسه فإذا بقي على جهالته ووحشيته وضلالته انتكس وتدهور، فما قيمة الرقي المادي في ذاته[xxiv][24]. والحضارة الغربية لم تنجح حتى الآن في تحقيق هذا الرقي الإنساني في ظل الإيمان واليقين في قدرة الله خالق الكون الذي يجلب الطمأنينة والسكينة والإحساس بالأمن العقلي والوجداني، بينما الحضارة الإسلامية قامت ولا تزال على هذا العنصر الحيوي، فهي حضارة إيمانية إنسانية في الصميم، وفي مقاصدها وغاياتها فهي لا تمثل سوى فكرة مثالية أو شعار مذهبي أو مشروع لم ينفذ أو تصور لما يمكن تحقيقه، إنما هي واقع معيش يحياه المجتمع الإسلامي، واشترك في صنعه الإنسان المسلم وغير المسلم ممن يعيش في كنف المجتمع الإسلامي ويشكل جزءا لا يتجزأ منه ولذلك هم الذين صنعوا ويصنعون الحضارة الإسلامية، وهم الذين يصوغون مستقبلها وهم الذين يحمونها ويحددون مصيرها. وتلك هي مسؤولية الأمة[xxv][25] الإسلامية في الحاضر والمستقبل، وتلك هي رسالة الحضارة الإسلامية. وإذا كنا وضعنا أيدينا على الداء العضال الذي يسحق نفس المسلم في هذا العصر نتيجة المخطط الاستعماري الرهيب وهو داء الفصام بين جانبه الروحي وجانبه الاجتماعي فإن المهمة الأولى التي تضع المجتمع الإسلامي على الطريق الصحيح، هي إزالة حالة الفصام التي تعصف بكيان المسلم وقد تحدث عنها مالك بن نبي وفصل الحديث فيها. فالمسلم حسب رأيه يعيش في أحسن أحواله ازدواجية قاتلة قد يكون بموجبها قديسا في المسجد ولكنه بمجرد أن يتوارى عنه ويخرج إلى الشارع يتحول إلى وحش كاسر، يدوس على حقوق الناس وينتهك حرمات أعراضهم”فالمشكلة التي نواجهها إذن ذات جانبين جانب اجتماعي وجانب نفسي…ولكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن تكون لدينا فكرة عليا تصل بين الروحي والاجتماعي وتجعل من جديد تركيب الشخص المسلم بحيث يتماثل مع ذاته في المسجد وفي الشارع”[xxvi][26]
لقد عايش مالك الصراع الإسلامي مع الغرب وأدرك خطر استيراد الفكر وإضاعة الطاقات هباء في المقاهي والصالونات الفكرية، إنه من الذين اكتشفوا أن الاستعمار يسعى أولا إلى أن يجعل من الفرد خائنا للمجتمع الذي يعيش فيه فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار[xxvii][27]. فالاستعمار لم يكتف بالنهب والاستغلال وأشكال التدمير المادي والمعنوي، وإنما يحطم قواعد السلوك والخلق والهوية ويستبدل بها ما يؤدي إلى السقوط الخلقي كبوابة دائمة الانفتاح يمكنه أن يلجها متى شاء[xxviii][28]. فيؤكد ابن نبي على هذا ضرورة تصحيح العقيدة وتقويتها في نفوس المسلمين حتى ينتج عنها ما تقتضيه من تأثير على مستوى السلوك في كل ميادين الحياة، ويرتبط بتصحيح العقيدة تبصير الإنسان المسلم بوظيفته في الحياة لئلا تتحول حياته إلى عبث. فتعريف المسلم بالأمور الأساسية تجعله في منجى من التأثيرات المدمرة التي تنبعث بل تتدفق كالسيل من التيارات الأجنبية التي تتصراع من حوله، وتكسبه الميزان الدقيق الذي يزن به الغث والسمين ويميز به بين الحق والباطل. كذلك وجب تصحيح القيم الخلقية التي اكتسبت خلال عصور الانحطاط طابع السلبية والتثبيط. فنتيجة لأوضاع التخلف أبعدت كثير من القيم الإسلامية عن مفهومها الحق[xxix][29]. فالصبر وهو قيمة إسلامية عظيمة الشأن تحول إلى دعوة للخنوع واستساغة للمذلة والطغيان بدلا من الصبر على مشاق العبادة والجهاد ومصاعب بناء الحياة، والصبر على الإذاية في سبيل تحقيق المطامح العظيمة للمسلمين في تحقيق المجد والعزة والجهاد تحول إلى إرهاب وأصولية وعدوان[xxx][30].
فكل ما ذكر يدخل في إطار الصراع الحضاري بمختلف أشكاله، إذ تشكل الحضارة التي يريدها مالك حماية الإنسان حيث تضع بينه وبين الهمجية حاجزا إنها حركة شعب بأكمله استرشادا بأفكار واضحة ووصولا إلى غايات محددة؛ لأن عملية إزاحة الإرث الاستعماري المتظافر مع الجمود والتحجر الفكري عند أفراد المجتمع ليست بالأمر المستحيل إذا ما خلصت النيات وصح العزم وتظافرت الجهود[xxxi][31] لذلك دعا إلى التوقف عن تعليل النفس بالماضي والإقلاع عن الفوضى والارتجال بالسير على خطى ما سماه نظرية الكل الاجتماعي المنظم التي هي أساس تقدم المجتمع يقول مالك إن ” ميزانية التاريخ ليست رصيدا من الكلام بل كتل من النشاط الإيجابي والمادي، ومن الأفكار التي لها كثافة في الواقع ووزنه”[xxxii][32].
فالنهوض الحضاري للأمة الإسلامية يتمثل في رجوعها لنقطة قوامها واستقامتها أول مرة أيا ما كانت جلجلتها وقوتها في أول مجدها حيث بسطت سيطرتها من الشرق الأوسط إلى غرب المحيط الأطلسي لذلك فبناء المجتمع يجب أن ينشأ استنادا إلى البعد الديني كأداة لكل تغيير محتمل.فمالك نظر إلى قضية الحضارة من المعادلة التي تضم التراب+الإنسان+الزمن، فمن حاصل تفاعل هذه المكونات ممزوجة بالبعد الديني يمكن الوصول إلى الأمة المتحضرة التي يعد الإنسان الفاعل عنصرها الفذ فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع وإذا سكن الإنسان سكن المجتمع. فالمسلم الفاعل هو الذي يصنع التاريخ لا الذي يقوله ومشكلة المسلم عند مالك هي أنه لا يفكر ليعمل بل يفكرليقول ويتكلم بعكس الرجل الغربي. فهو يرى أن الفرق شاسع بين مشاكل تتم دراستها في إطار الدورة الزمنية الغربية وأخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية[xxxiii][33].
وإذا كان مالك بن نبي أعطى البديل وهو الرجوع إلى الأصول التي انطلقت منها الحضارة الإسلامية فإن إدوارد سعيد اتخذ منهجا مخالفا وهو مواجهة أعداء الإسلام وكل من حاول رميه أو تهجين قيمه، وهو العربي المسيحي العلماني الذي لم يتوان في الدفاع عن الإسلام والمسلمين منذ أن وعى قلمه ذلك إلى أن فارق الحياة (2003) فقد عمل على كشف التصوير المغلوب الذي تصوره الجنس الغربي في وصف العرب والمسلمين باعتبارهم شعوبا تتسم بالدونية والعنف والاختلاف إلى حد الغرابة وهو تصوير ينزع السمة الإنسانية عن تلك الشعوب ويكرس فكرة تفوق الثقافة والحضارة الغربية فحاول في كل كتاباته وفكره ونقده وأدبه بل وموسيقاه رد الاعتبار للثقافات وأنماط الحياة الإنسانية على اتساعها والثقافة الإسلامية خاصة مؤكدا أن الديموقراطية والحداثة وغيرها من المفاهيم لا تحمل مدلولا وحيدا مقتصرا على الرؤية الأوربية أو الغربية بشكل عام والتي تقيس المجتمعات الأخرى بمقاييس من المركزية الثقافية. دافع إدوارد سعيد عن الإسلام وحضارته وتناول في كتاباته تأثير هذه التمثيلات الأدبية والثقافية المجحفة للشعوب الشرقية، والتي نشيع صورا نمطية سلبية عن تلك المجتمعات العربية والإسلامية خاصة ومساهمتها في تبرير أو صياغة سياسات خارجية مجحفة وغير عقلانية تجاه قضايا هذه المجتمعات وذلك في مشابهة تاريخية لما أدت إليه كتابات عصر التنوير من قبل في تبرير الظاهرة الاستعمارية ووصفها باعتبارها مهمة كـ”مدنية” الشعوب المتخلفة ونقل الحضارة الأوربية إليها، تحد كتابات بعض المؤرخين المعاصرين في تشويه الإسلام وحضارته ووصفه بالأصولية والعنف ككتابات هيغل وماركس ونيتشه وكيركيغارد وبرنارد لويس وصمويل هانتجتون عن صراع الحضارات الذي وضعت فيه الحضارة الإسلامية في موضع العدو الحتمي للحضارة الغريبة[xxxiv][34].طور إدوارد سعيد مفاهيم جديدة تصب في دائرة النقد العميق والانشقاق الدائم حيث كتب نقدا معمقا بالغ الجرأة ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة الإبداعية حيث يخضعها للسياسة اليومية أو الطارئة فينتقصها أو يستزيدها قياسا على ما ليس فيها، مارس فضحا منهجيا صارما وأصيلا لنزعة إنسية مطلقة تبدأ من مركزية لكي تصب في مركزية غربية صرفة تقصي الآخر أو تهمشه لصالح ذات أوربية على نحو تجريدي أقصى وغاص عميقا في تاريخية الحداثة وفي ملفاتها الثقافية-الاجتماعية لكي تنكشف الحدود الفاصلة بين التحديث وقسر التحديث وبذل جهودا مضنية لكي يكون الخطاب الصادر عن مفكري ونقاد العالم الثالث (من الشباب بصفة خاصة) بعيدا عن ابتداع مركزية تضع الأطراف في مواجهة أحادية عدائية مع المركز الامبريالي بكل ما ينطوي عليه من إنجاز إبداعي وفكري و استغلال تراث الأمة الإسلامية وتهجين عقيدتها.
واصل إدوارد بفكره الذي ينتمى إلى تيار فكري وفلسفي ونقدي خارج التاريخ المألوف أوالرسمي واستمر في القرن 19 مع هيغل وماركس ونيتشه وكيركيغارد وخلق تراثا نقديا للحضارة الغربية وإشكالياتها الثقافية والذهنية والاقتصادية والساسية. وأعطى الحضارة الإسلامية حقها ووضعها في مكانتها التي تستحقها فهو حلقة من سلسلة طويلة من المفكرين الذين يمكن وصفهم دون مبالغة بأنهم نقاد حضارة حيث انتقد سعيد الامبراطورية الأمريكية وثقافتها السائدة بل الطاغية وفقا لمفهوم كارل ماركس ” النقد بالكلمات” كما وجه انتقادا صارما للمفكرين العرب والذين يعملون في الجامعات الأمريكية والأوربية عامة ويساهمون في تقوية هجومها على الإسلام والمسلمين ومن جملة أولائك صادق جلال العظم الذي كان بينه وبين إدوارد خلاف شديد ونقد لاذع.
كما انتقد حال المجتمع العربي والإسلامي الذي يعرف تفرقة وتجربة كاملة في كل المجالات والمستويات ويرجع السبب في ذلك إلى ابتعادهم عن المصدر الموحد الذي وحدهم منذ أزيد من 15 قرن وهو الإسلام ومبادئه السمحة الذي يعتبره المثل الأعلى والأنموذج المحتذى لكل تقدم وازدهار يقول” ربما كان السبب الرئيسي وراء التشرذم العربي على كل مستوى في مجتمعاتنا في الداخل والخارج هو الغياب الملحوظ للمثل والنماذج الذي يحتذى بها”[xxxv][35]
فضرورة الوحدة والتآزر بين الأمم الإسلامية لتشكيل القوة والنهوض بالأمة الإسلامية هي السبيل للخروج من هذه الحال المزرية. فكل من مالك بن نبي وإدوارد سعيد يؤكد أن الحضارة الإسلامية ستعود إلى مجدها وستأخذ مكانها اللائق بها في المستقبل بعد انهيار الحضارة الغربية؛ لأن الحضارة العربية لا تزال لها جذور عميقة في تاريخ الحضارات البشرية، وفيها من الحيوية وقوة الصمود بمقوماتها ما يساعد على الانبعاث من جديد لقد سبق لهذه الحضارة أن كونت أعظم الدول مما عرفه التاريخ الواحدة تلو الأخرى، لذلك فهذه الحضارة لا يمكن أن تموت وإنما ستنهض من جديد كما نهضت في الماضي عدة مرات في التاريخ بعد سباتها وهي ترتكز على مصدر قوتها المستمد من القوة الإلهية حيث يقول تعالى﴿ يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره﴾
خلاصة
وأخيرا فقد أثبت الحضارة الإسلامية عبر عصورها المتتالية وخلال دورتها المتعاقبة أنها حضارة متجددة، تساير المتغيرات وتتكيف مع التطورات وتنفتح على الحضارات الإنسانية جميعا، وقد عرف المسلمون بناة الحضارة الإسلامية فكرة التقدم، التي هي محتوى التجدد المستمر والتجدد المتواصل، وأسهموا في تأصيلها وعملوا على تجسيدها في حياتهم العملية. ولما دخل العالم الإسلامي في طور التراجع الحضاري، ونكس المسلمون عن العمل بفكرة التقدم، التي هي من صميم المبادئ الإسلامية، انعكس هذا الوضع على الحضارة الإسلامية فتقلصت ظلالها وضعفت آثارها، ولكنها احتفظت بعناصرها ولم تنل تقلبات الدهر من خصائصها بحيث كان وضع الحضارة الإسلامية انعكاسا لأوضاع المسلمين في العالم، على اعتبار أن الأمة الإسلامية هي صانعة الحضارة الإسلامية وحاضنتها، فإن تراجعت الأمة عن خط التقدم وضعف شأنها كان التراجع والضعف مصير حضارتها.
ومهما قيل ويقال عن تدهور الحضارة الإسلامية وسهو صانعيها وإغراقهم في سباتهم العميق فإننا نؤكد أن الحضارة الإسلامية هي حضارة الغد يقينا نستمده من قدرة الله تعالى وعظمته وهيمنته على الإنسان والحياة والكون، ومن وعد الله لعباده المؤمنين لأن الأمة الإسلامية لن تبقى رهينة وضعها الحالي، ولن يدوم هذا الوضع طويلا، لأن دوامه واستمراره في خط التراجع يتعارضان وطبائع الأشياء، وسنن الحياة البشرية. ولكن على المسلمين أن يتضامنوا تضامنا قويا متماسكا، وأن تتضافر جهودهم ليجددوا بناء حضارتهم حتى تكون ملاذا للإنسانية جمعاء تظللهم بقيمها السمحة وتعاليمها الفاضلة.
إن عودة الحضارة الإسلامية إلى استئناف دورها في إغناء الحضارة المعاصرة ضرورة إنسانية وفريضة دينية ورسالة حضارية ومسؤولية الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها.
وأتساءل كما تساءل قبلي يوما أبو الحسن الندوي: ألم يان لهذه الأمة أن تستيقظ من سباتها العميق؟ إلى متى أيها المسلمون تصرفون قواكم الجبابرة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة؟ إلى متى ينحصر هذا السيل العرم الذي جرف بالأمس بالمدنيات والحكومات في حدود هذا الوادي الضيق تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضا؟ إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعا وفي مصيركم ومصير العالم جميعا فاحتضنوا هذه الحضارة الإسلامية من جديد وتعاونوا في سبيلها .
الهوامش
[i][1]-مالك بن نبي مشروع نهضة مؤجل، لإشراقة الفاتح محيي الدين، ص 106-107، المجلة العربية، العدد335، السنة ، 29 ذو الحجة 1425، يناير 2005.
[ii][2] -خصائص الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل، لعبد العزيز التوجيري، ص 38-39.
[iii][3] – الإسلام حضارة الغد ليوسف القرضاوي، ص 15، مكتبة وهبة، القاهرة، 1995.
[iv][4] – في الإيديولوجيا والحضارة والعولمة لعبد الرحمان خليفة ود.فضل الله إسماعيل، ص 274، مكتبة بستان المعرفة، كفر الدار، مصر، 2001.
[v][5] – موسوعة الحضارة الإسلامية لأحمد شلبي، 1/50، مكتبة نهضة المصرية، القاهرة، 1987.
– الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل، لعبد العزيز التوجيري، ص 42.[vi][6]
[vii][7] – ما خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي، ص 156-157، دار الكتاب العربي، ط8، 1984.
[viii][8] – الإسلام حضارة الغد، ليوسف القرضاوي، ص30.
[ix][9] – نفسه.
[x][10] – خصائص الحضارة الإسلامية، ص45-46.
[xi][11] – نفسه، 44-45
[xii][12] – ما خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 274.
[xiii][13] Thiery Hentsch, l’orient imaginaire : la vision politique occitendatale de l’Est mediterranneen.(paris, minuit, 1988).
[xiv][14] Philippe senac, l’image de l’autre : l’histoire de l’occident mêdiavel face à l’islam (paris ; Flammarion, 1983),p17.
[xv][15]Ibid, p24.
[xvi][16] Ibid, p 25.
[xvii][17] -Montogomery l’influence de l’islam sur l’Europe mediavale, paris, genther, 1974, p86.
[xviii][18] Ibid, p 97.
[xix][19] Charles louis de secondant Montesquieu, ouvre complètes, paris, Gallimard, 1964, tomme1, p250.
[xx][20]George wilhelun, Friedrich Hegel, leçon sur l’histoire de la philosophie, paris, vrin, 1963.
[xxi][21] – أوربا والوطن العربي، ص 34.
[xxii][22] Corm, l’Europe et l’orient, de la balkanisation, p26.
[xxiii][23] – وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي نقلا عن مقال فكرة الحضارة وتحديد المشكلة الإسلامية عند مالك بن نبي لنور الدين خندودي، ص 120، مجلة الجهاد، عدد 106، السنة 10جمادى 1404، يناير 1992.
[xxiv][24] – الحضارة دراسة في أصول وعوامل قيمها وتطورها لحسين مؤنس، ص348، العدد1 تكرر في االدد237، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1998.
[xxv][25] – خصائص الحضارة الإسلامية، ص50-51.
[xxvi][26] – ميلاد مجتمع لمالك بن نبي، ص 70 وينظر أيضا أزمة القيم وإشكالية التخلف الحضاري لعبد المجيد بنمسعود، ص 50-51، مجلة المنعدف، عدد3-4، 1992.
[xxvii][27] – الصراع الفكر في البلاد المستعمرة لمالك بن نبي، ص 125، وينظر ايضا أسئلة الفكر المنهج والفعالية في ثرات مالك بن نبي لمحمد البنعيادي، ص 44.
[xxviii][28] – أسئلة الفكر المنهج والفعالية في ثرات مالك بن نبي لمحمد البنعيادي، ص 44.
[xxix][29] – نفسه، ص 51-52.
[xxx][30] أزمة القيم وإشكالية التخلف الحضاري، ص 51.
[xxxi][31] نفسه، ص53.
[xxxii][32] – مشكلة الثقافة، ص 19 وأيضا أسئلة الفكر المنهج والفعالية في ثرات مالك بن نبي، ص 44.-45.
[xxxiii][33] – مالك بن نبي مشروع نهضة مؤجل للفاتح محيي الدين، ص 17.
[xxxiv][34] – إداورد سعيد المقاومة بالفكر لهناء عيد، مقال عبر الإعلامياتhtpp://www.ahram.org.eg/ac pss/.
[xxxv][35] – تشتت العرب وتشردمهم لإدوارد سعيد، مقال عبر الإعلاميات، سنة2004.