ساير الخطاب السوسيولوجي المتعلق بالتحام الثقافة منذ الحرب العالمية الثانية، نموذجا فريدا من التطور وفق مراحله المتتالية[i][i]؛ وذلك في حدود عدم وجود سوسيولوجيا مستقلة تماما عن الواقع الاجتماعي الذي تأسست فيه مراحل تاريخ التطور الاقتصادي وانتشار الحداثة. وفي سنوات الستينات، اقتضى الأدب السوسيولوجي ذو الطابع الاقتصادي وافترض أن جل مجالات الحياة الاجتماعية أدت إلى حداثة عن سبيل واحد[ii][ii] واضح تقريبا، لا يمكنه إلا أن يقود إلى تصور موسوم بالتقدم من أجل التلاحم مع نوع واحد من المجتمع الصناعي[iii][iii]. ولن يتسنى لنا البتة فهم الأدب إلا إذا تناسينا أن إنتاجه كان متزامنا مع حصول البلدان المستعمرة على استقلالها، تلك التي كانت منفتحة على العصرنة السياسية (البلاد المركزية والموحدة في مقابل الخصوصية لجميع الأنواع)، والتطور الاقتصادي كمعطى للإثبات والقوة الوطنيتين. هذا الخطاب الموحد للحداثة كمعطى ثابت، أعيد النظر فيه خلال سنوات السبعينات حين هيمنته تدريجيا على كل المجتمعات ومجالات الحياة الاجتماعية. أكيد أن بروز أوطان حديثة الاستقلال كشف عن تغيير ظاهر وجلي في أشكال النمو الاقتصادي (بما فيه اللانمو والتراجع)، والتحولات الاجتماعية في الشكل الذي تظهر أو تتقوى فيه التقاليد الأهلية، رغم ما تتبناه بعض السيمات المرتبطة بالحداثة. كما أكدت فضلا عن ذلك تحليلات دقيقة على وجود علاقة بين التقليدي والحداثة لا تتجلى في مجرد تماثل بسيط، وأن ثمة بلدانا مختلفة أيضا، ومتصنعة كبريطانيا العظمى، وإيطاليا، واليابان، قد كانت من المؤسسين لتقدمها بإعادة تفسير عادات ما قبل الحداثة. كما بدت للعيان من جهة أخرى، بصمات مشاركة النخب التقليدية، وإدماج مؤشرات تقليدية موضوعية أو رمزية أقل حاجز ومعرقل لتطور لا يمكن له الصمود، مما قد يبدو كأحد الشروط الضرورية للتطور ولتثبيت مجتمع حديث[iv][iv]. وفي الختام، إضافة إلى كل هذا ترى الملاحظة الإمبريقية أن الأمم الحديثة والبعيدة عن متابعة نموذج أوربا الغربية تطورت حسب قانونها الخاص، بالقدر نفسه للتطور والحداثة الذي طرح ثانيا للبحث داخل المجتمعات الغربية، مثلما هو الشأن بالنسبة لممثلي الحركات الاجتماعية الملهمة يساريا، وكما هو الشأن كذلك بالنسبة لعلماء الاجتماع الذين يحدوهم الإحساس”بخيبة التقدم”. هذا النقد للحداثة وجد ثانية في النقد الروائي الذي يعارض العقلنة في المجتمع الحديث الذي فشلت فيه السوسيولوجيا الكلاسيكية، حيث قابلت التجمع بالمجتمع أو الثقافة بالحضارة.
ولقد منحت هذه الانتقادات خطابا مزدوجا، أو بالأحرى خطابا ذا مظهرين: من جهة، منحت التصدي المؤثر للنمو الاقتصادي “التدمير بكل أوصافه[v][v]، وللتقابل الكوني ولمواطنيه عالمية مساوية «لعالم عقلاني» ،”لمناهضة الطغاة بين الاستطاعات المتجانسة والقدرات المختلفة”، من جهة أخرى، منحت هذه الانتقادات تحليلات متعلقة بالهوية وأشكال الإعدادات الذاتية، ولإثبات الخاصيات على حساب المشاركة الوطنية، ولبناء مفهوم عرقي لاعادة الاعتبار للشكل الجديد للصراعات الاجتماعية في الولايات المتحدة، ولإبراز النزاعات الإقليمية، كحركات اجتماعية متميزة في أوربا الغربية. وكما يوجد هناك أيضا، علم الاجتماع متأصلا في المطالب والصراعات بين المجموعات الاجتماعية التي يدرسها.
لا يمكن لنا اليوم متابعة الانعكاس الجدلي من هنا أو هناك لأشكال الالتقاء بين الحداثة من جهة، والأشكال الثقافية والاجتماعية والسياسية التقليدية من جهة أخرى، على الأقل في إطار ما أصبح يبدو لي محتما أن ننطلق من نتيجة أن تعدد الأشكال التبادلية والاقتباسات التي غدت تثبت بين بعض النماذج من السلوكيات، واردة عبر لوازم جلية أو ضمنية لحداثة ولنماذج موروثة من عادات خاصة. ولعل هذا التعدد ليس إلا خلاصة لغنى المجتمع البشري، رغم ما يلاحظه س.ن. ايسنستاد من أن التحديث أو الحداثة تكون نموذجا حضاريا في أعماقه الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، فيما يخص أوربا الغربية فرضت من الآن فصاعدا في العالم بأكمله، إذ لم يبق شيء أقل بعدا من تدمير الثقافات التقليدية، بينما توجد الحداثة مؤولة ثانية في معنى الأنثروبولوجيين عبر مختلف الوحدات الثقافية. وأشكال هذا التأويل مرتبطة في الوقت نفسه بمميزات الثقافة الأصلية، والظروف التاريخية اللتين يتأسس بحسبهما ويثبت الالتقاء مع الغرب.
ففي خطاب أساسي لتحديث وحيد كنتيجة وكقيمة تحل تعددية التحاليل الخاصة، نقترح هنا الإتيان بمساهمة في خطاب سوسيولوجي إجمالي لتعددية قضايا الحداثة، صحبة تحليل بعض خصوصيات مثاقفة العمال المهاجرين في فرنسا[vi][vi].وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن ساكنة مثل هؤلاء المهاجرين المنحدرين من مجتمع تقليدي، يوجدون أصلا في مواجهة مع متطلبات المجتمع الذي يقيمون فيه، والذي يعتبر بشكل من الأشكال مجتمعا حديثا. وانطلاقا من هذا المثال المتميز والخاص، سنحاول تفسير وتوضيح بعض الأشكال التي تتمثلها قضية المثاقفة مع الحداثة والحدود التي تحدها.
أما اللقاءات التي شهدتها فرنسا حول موضوع العمال المهاجرين الأجانب، فإنها لم تشكل في حقيقة الأمر إلا حالة خاصة من مواجهة واسعة جدا. إذ توبع التضييق السياسي لبلدان أوربا الغربية، منذ الحرب العالمية الثانية، بنشر الحداثة الغربية بخصوصياتها الأساسية: للوطن الأم ،ثم الميل إلى العقلنة المتمثلة في النظام الاقتصادي. هذا النشر للحداثة يقود إلى نوع من المواجهة الثقافية عامة: وهكذا أدت الوضعية الاستعمارية لتليها بعد ذلك الوضعية الاستقلالية، إلى إعادة طرح لاحق من أجل البحث بشكل مباشر في الثقافة الغربية، كما هو الشأن بالنسبة للثقافات “الأهلية” الواحدة منها تقابل الأخرى، حتى وإن كانت المواجهة تدور في مواضيع غير متكافئة. ويمكن للأثنولوجيا أن تؤول بدورها كمعطى ثان للبحث في الثقافة التي ينتمي إليها الاثنولوجي بقدر الثقافة التي يلاحظها هو، حيث لا يلاحظ الآخر إلا عبر أصناف ثقافته الخاصة، ومع كل ذلك تمثل المواجهة الثقافية المؤسسة إبان هجرة العمال المهاجرين أحد الأعداد المميزة.
أما العمال المهاجرون، فلا يشكلون شعبا متجانسا، بل على العكس يختلفون بعضهم بعضا، من حيث وقت الهجرة مقابل تاريخ مجتمع الأصل[vii][vii]ومجتمع المهجر، ويختلفون أيضا من حيث المسار الشخصي الذي يلي الهجرة. ولعل الموضوع الحقيقي للتحليل السوسيولوجي ـكما يكتب بدقةـ لا يتكون فقط من المهاجرين، بل يتكون أيضا من الفئات المهاجرة التي تعرف سكانا لهم نفس الأصل في مرحلة معينة[viii][viii]. وسنحاول جاهدين رغم تنوع ظروف وشرح الهجرة وأشكال المثاقفة، إبعاد ما يميز وضع المهاجر مباشرة، إذ ليس مجال الحديث هنا عدم قبول الاختلافات بين الفرق، أو العودة إلى تعليل إجمالي، بقدر ما هو محاولة تحليل الخصائص المشتركة لكثافة سكانية، ذلك لأنها ناتجة مباشرة عن أوضاع السكان المهاجرين المواجهين لنفس متطلبات المجتمع الحديث. حيث لا يمكن التحدث عن “المهاجرين” إضافة إلى أنه لا يمكن أن نحلل مجتمع الإقامة على أساس أنه يشكل كلا متجانسا، ليس لأنه يتضمن تنوعا ثقافيا مرتبطا بالأشكال المختلفة للامساواة الاجتماعية والمشاركة غير العادلة، فيما يمكن تسميته حسب هالبواكش “بالبيت” المشتمل على القيم المشتركة ليس إلا، ولكن أيضا ينسحب هذا أيضا على كل مجتمع، حتى بالنسبة للمجالات الأكثر تعرضا وخطورة، وذلك مخافة أن تكون قد مست بالعقلنة. ويتضمن كذلك مختلف المكونات التقليدية والحديثة كما سلف أن قلنا.
أكيد أن قضية العقلنة هذه لم تقص لا قوة الوراثة ولا تأثير التقاليد. ومجتمع الهجرة ليس حديثا كلية، كما أنه يعتبر الأصلي، ولا يمت بصلة إلى التقليدية. ولا يعد مجتمع الهجرة في مجموعه الذي هو عليه، مجتمعا يتبنى الهجرة على عواهنه، بل يتبناه أيضا في بعض مقتضياته.
يتبنى الأدب السوسيولوجي ثلاث وجهات نظر فيما يخص قضية العمال المهاجرين : وجهة نظر عالم الاقتصاد الذي يصون وبشكل منطقي تقسيم الموارد والثروة والعمل والتحويلات المالية المتعلقة بالسلم الخارجي؛ ووجهة نظر عالم الاجتماع صاحب العمل الاجتماعي، أو عالم السياسة الذي يستجوب المهاجرين كممثلين للتاريخ أو السياسة، ثم أخيرا وجهة نظر عالم الاجتماع ذي المنحى الثقافي، الذي يحاول رد الاعتبار لأنواع المثاقفة الناتجة عن الهجرة والإقامة في البلاد الحديثة.[ix][ix] وتحدد التحليلات المتعاقبة في هذا المنظور الأخير: إذا كان صحيحا كما كتب بالتنافس منظرو الحداثة منذ ماكس فيبر أن الحداثة تقتضي أولا، موقفا فكريا وأخلاقيا تجاه العالم، حيث يمكن للتحليل الثقافي في ظروف معينة أن ينكشف للعيان ملائما تماما. أما وجهة نظر الثقافوي، هي في الواقع كشف خصب عندما يوسع في تحليل الأوضاع الاجتماعية الموضوعية ومنحها معناها الحقيقي والجدير بها، وبعبارة أخرى حين تناوله سكانا متقاسمين لنفس الوضع الاجتماعي الموضوعي، وتتهيأ لهم فرص مماثلة، آنذاك يكشف الالتحام الرمزي في مجموع سلوكاتهم. هذه التحاليل مستقاة من قراءة نصوص عدة لها علاقة بالعمال المهاجرين في فرنسا، إلا أنها تنصب أساسا على مثالين يبدو الواحد منهما مبتعدا عن الآخر: المهاجرون الإيطاليون ما بين 1950و1970، والأتراك منذ 1970. وإذا كان العمال الإيطاليون يظهرون، بعد التجربة التاريخية، بأنهم قادرون على الاندماج بوجه خاص في المجتمع الفرنسي، فإن العمال الأتراك يؤكدون عزمهم على البقاء أتراكا.[x][x]
من الهجرة الاقتصادية إلى الهجرة السكانية .
يشتمل التحديد النموذج المتميز لاوضاع العمال المهاجرين على ثلاثة حدود: تواجد أجنبي، تواجد مؤقت، وتواجد لأسباب العمل، ثلاثة مميزات لتواجد المهاجر متلازمة ومتفاعلة فيما بينها، وهي تعمل في تبادل وثيق ومرتبط..[xi][xi]ولقد أكدت الدراسات الامبريقية في وقت معين، أن إدماج المهاجرين في الأوضاع الاجتماعية يتناسب مع هذا التحديد. يلاحظ على سبيل المثال، أن المهاجرين الأتراك في السنوات الأولى لاستقرارهم في فرنسا وألمانيا، حيث كانوا يعملون كل ما في جهدهم من أجل ادخار المال، وتحويله إلى بلدهم الأصلي، موفرين بذلك دخلا سخروها لشراء العقار أو كسب الأموال التجارية. ولذلك نقص الاستهلاك على الأقل بطريقة غير قابلة للانضغاط لحساب هذا الادخار. لقد حددت العلاقات مع بلد المهاجرة، إذ اعتبرت الإقامة مؤقتة ضمن علاقات عملية ضرورية.”وكيف ما كان : فإن الأجنبي يأتي كعامل ويعود من حيث أتى، غايتنا الوحيدة هي المال”(ر.ك.ص87 ). ومن الأكيد أن رفض تعلم لغة بلد الإقامة لا يترجم حتما إلا موقف المجموع بمراعاة المجتمع الإجمالي. وينضاف تحليل نمط عيش العمالة التركيبية في شتوتغارت إلى التحليل الذي عرضه الباحثون بخصوص نفس العمال بفرنسا.
يبقى حتى بالنسبة لفرص العمل التي لا تقتضي في جل الأحيان أدنى أهلية مهنية، لا تساهم إلا في مشاركة هامشية في الحياة الاقتصادية (جل الأحيان في البناء أو كعامل مختص في الصناعات الثقيلة، أو صناعة السيارات). يقضي جمع وتقسيم المال المدخر للتعود على مقتضيات العمل الجماعي والتداخل على الأقل جزئيا (الذي لا يستبعد الانحطاط) في حساب اقتصادي معقول. لكن المهاجرين لا يتوافقون مع التحديد النموذج المثالي ـحيث لا يفسر حضور العمال الأجانب إلا بالعمل أو بصورة مؤقتةـ إلا في غضون مرحلة قصيرة.
إن الأبحاث الأمبريقية تؤكد أن هذه الممارسة الجلية في الحياة الاقتصادية ـالتي لا تبعد فضلا عن ذلك على أن هذا العمل مشحون بقوة قيمية رمزية في مجتمع المنشأـ لا تتجاوز السنتين أو الثلاث سنوات من إقامة المهاجرين، كيف ما كانت على سبيل المثال إرادة العمال الأتراك والتفسير الذي أعطوه لانطلاقتهم، فالتواجد في البلد الحديث يفسر هذا الموقف الأولي. أكيد أن وضعية المهاجر لن تفهم إلا بتقصي تاريخ مساره الفردي قبل الهجرة. إن العمال الأتراك شأنهم شأن العمال الإيطاليين، أعطوا لانطلاقتهم بعد عشرين سنة اتجاها لمشروع تحرك اجتماعي داخل تركيا، والذي يشكل فيه النشاط المهني في بلد المهاجرة مرحلة ضرورية ومؤقتة، فلقد أتت الهجرة لتؤكد ولتعجل بنظام كان قد شرع فيه في المجتمع الأصلي، إذ أن أول تهدم للعلاقات الاجتماعية التقليدية كان هو إعادة النظر في الدورين الأسريين تحت تأثير التحضر. ولقد أخذ المهاجرون المتحضرون في الغالب بعدا معينا، بمراعاة الاقتصاد والثقافة التقليديين، يشكلون سكانا فقراء ،إنما أرهق طموحهم بسبب وضعيتهم الاجتماعية في بلد المنشأ. إن التنشئة الاجتماعية السابقة المتعلقة بهذا المشروع الحركي، انكشفت عاملا ملائما لإدماج معايير مرتبطة بالنشاط المهني في بلد الإقامة. ليست التنشئة الاجتماعية السابقة للعمال الأتراك والإيطاليين في هذا الصدد مختلفة أساسا عن تلك الخاصة بالمهاجرين الذين نزحوا من قرى جنوب إيطاليا، أو من الجزر، للعمل في الصناعة بالمثلث الصناعي في شمال إيطاليا، أثناء مرحلة “أعجوبة إيطاليا”[xii][xii]، بينما كان هذا المشروع نفسه في تناقض مع الدور الاقتصادي الخالص الذي يريد أن يفرضه بلد المهاجرة على المهاجر.
أكثر من ذلك، ساهم التثاقف مع مجتمع الإقامة في تغيير هذا المشروع الأساسي. إن المجتمع الأسري، الذي يظهر بمعدل ثلاث سنوات بعد هجرة رب الأسرة، يشكل، من جهة، عاملا أساسيا وعلامة على هذا التغيير: يكف المهاجر أن يكون دوره متمثلا في عامل واحد ليس إلا. إن البنية السكانية المهاجرة، والأكثر تحديثا، أعيد لها في واقع الأمر توازنها بشكل سريع، وذلك بتضاعف فرص الدخول في مقاييس مجتمع المهاجرة: تعليم الأطفال، مشاركة النساء في الإنتاج الصناعي، أو في الحياة العادية للطبقات المتوسطة أو العليا بواسطة العمل المنزلي. يعرف فعلا، على عكس بعض الأفكار المأخوذة، أن نسبة متزايدة من النساء تشارك في سوق العمل، دون نسيان، وبكل تأكيد، النسبة المتزايدة من الأطفال المهاجرين.[xiii][xiii]وعن الهجرة الاقتصادية المقننة من وفي العمل تولدت بسرعة هجرة سكانية.
هكذا، كانت السلوكيات، والى حد الآن، مدعمة بعزيمة قوية لتوفير المال، والسكن، والأكل والهوايات، من أجل الاستثمار في تركيا، أو في إيطاليا، لكن حضور العائلة يفرض ويعلل سلوكا اقتصاديا جديدا مقتبسا من مجتمع الإقامة، ذلك المرتبط بالمستهلك، حيث يمتلك المهاجر، بالخصوص آلة الغسيل الإلكترونية والسيارة، اللتان كونتا مؤشرين لنجاح اجتماعي في أوروبا خلال الثلاثين سنة الأخيرة. فجهاز التلفزة يظل دائما مشتغلا، حتى وإن كان المهاجرون يجهلون لغة البلد والزخرفة في جميع بيوتهم الخاصة، فآلة الغسيل علامة لحمل جديد في العمل المنْزلي، امتلاك السيارة، وضعية استقلالية الأسرة، وهي مؤشر في تركيا أو في إيطاليا لنجاح الهجرة. وهذا يبين التأكيد في سير الاستهلاك على حساب المال المدخر. من أجل السكن بقي الاستهلاك مدة طويلة مختلفا عن استهلاك العمال الفرنسيينـعرض يطبق على جميع السكان الذين ليست لهم حظوة: إن مثال السود في الولايات المتحدة يوضحه كذلك: فرغم تطورهم الإجمالي، خلق مشكل التمييز في السكن منذ عشر سنوات، حيث بقي غاليا جدا، أقل تجهيزا وأكثر تسكانا من السكن الخاص بالبيض ذوي نفس المستوى الاجتماعي[xiv][xiv].كذلك قامت في فرنسا وألمانيا الحركات المطالبة للعمال المهاجرين بمظاهرة أولية حول مشاكل السكن، منذ عشر سنوات. فلقد استقر الأتراك الذين أتوا مؤخرا، إما في الأحياء العتيقة والأكثر فقرا، أو في مساكن متوسطة الإيجار والأكثر فسادا[xv][xv]، في المدن الصغيرة أو المتوسطة. بينما في باريس يوفقون غالبا بين مشروع الخياطة في المنْزل والحياة العائلية في الشقق الصغيرة. إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تتقل كاهل السكن في المجتمع المهاجرة تضيف تأثيراتها إلى تلك الخاصة بالمهاجرين الذين يفضلون في أولى اختياراتهم الاقتصادية اقتناء أحسن الأثاث وبكل أنواعه على حساب امتلاك العقار. لكن مثال المهاجرين الإيطاليين، الذين أصبحوا بعد بضعة سنوات، يقتصدون في جميع مرافق النفقة لشراء قطعة أرض يبنون فيها منْزلا بمساعدة عائلتهم، يوضح – هذا المثال – أن هذا الموقف ليس نهائيا.[xvi][xvi]
إن التناقض بين السلوك الأولي للمهاجر ومتطلبات الاستهلاك لأطفاله تظهر بشكل سريع: كنت مرة في السينما، مع المدرسة ليس للآباء وقت”ر.ك,ص124”فما من مرة طلبت من أبي بأن يرافقنا إلى البادية إلا رد علي قائلا: آه، لا، لدي عمل! نحن كأطفال بدون آباء” “ر.ك.ص124”.
وعبر معايير السلوك الاقتصادي، أعيد النظر بشكل جلي في العلاقات داخل المجموعة الأسرية. إن السلوكيات الاقتصادية المتماثلة ليست اقتصادية جلية فقط، بل تفرض أيضا القيمة الممنوحة للفردانية ولإكمال الذات، ولإرضاء رغباتها على حساب القيمة الممنوحة لمعايير مجموعة كونت بقوة. ومع ذلك، فإنه ينبغي تحديد نتائج وحدود قضية المثاقفة المستنتجة من خلال السلوكيات الاقتصادية.
الترقيع الثقافي أو المثاقفة المقننة والمحدودة
إن نموذج المهاجرين الإيطاليين والأتراك تكشفه المثاقفة التي لا تستند على السلوكيات الاقتصادية ولا حتى الهجرة التي أدت إلى إعادة تفسير الأدوار الأسرية. إن إعادة التفسير تختلف حسب السكان المعنيين، وهكذا تقربت الأسر الإيطالية إلى أسلوب الأسر الفرنسية ذات نفس المستوى الاجتماعي، أكثر من تقرب الأسر التركية إلى هذه الأخيرة. وتختلف داخل كل مجموعة وطنية، حسب نشأة المهاجرين: بعضهم يرى أن الهجرة تعني كذلك المرور من العالم القروي إلى العالم الحضري، وبالمقابل عرف آخرون سابقا قطيعة مع المجتمع القروي في البلاد الأصلية كشكل أولي للتحضر أو شبه التحضر، حيث عجلت الهجرة بمشروع حركي اجتماعي متحضر، كانت فيه الأوضاع متداخلة جزئيا على الأقل قبل الهجرة. إنها تختلف كذلك حسب المهاجرين المتفرقين بشكل نسبي في الوسط الحضري، أو متمركزين في بيت عمالي (كما هو الشأن بالنسبة لقرى إفريقية تحولت كلية إلى بيت واحد)، أو في حي داخل مدينة صغيرة أو متوسطة في الإقليم حيث الحياة المشتركة منظمة، وترغم المراقبة من طرف التجمع على المهاجرين أن يستكملوا توافقهم بقدر الإمكان مع معايير السلوكيات التقليدية[xvii][xvii]. ومع ذلك يجب الاحتراس من عدم النظر في تأبيد التجمع الخاص إلا كعامل محافظ على الأشكال التقليدية للحياة الاجتماعية؛ فهو يلعب دورا مثل دور الأسرة ،لكن يمنح كذلك للمهاجر شكلا للاندماج في مجتمع الإقامة، بمساعدته على حل الصراعات مع المجتمع الإجمالي، وبمساعدته على تقليص الصراعات الأسرية، وتأسيس مثاقفة محدودة كما سنرى في الأسفل.
رغم النتيجة المختلفة لهذه المتغيرات، نلاحظ تطورا مشتركا، ولو أنه بطريقة غير متساوية الإثبات، نحو نووية الأسرة التي أصبحت تجمع استهلاك (بالنسبة للأتراك خاصة) وإنتاج، وأصبحت كذلك مركز قرار مشترك؛ حيث أخذت الروابط بين الزوجين اتجاها جديدا في المجال الذي لم يعد ينحصر فيه دور الرجل وقفا على مشاركته في الحياة الاجتماعية خارج الأسرة، ولعل هذا التجديد في الحياة الأسرية أصبح ملحوظا بشكل خاص عند المهاجرين الإيطاليين. ففي الأسر التي تبقى أقرب إلى التقاليد، نجد بعض عناصرها (من نماذج السلوك كمتحضرة لها قيمة) اندمجت بتغيير كثافة العلاقات بين الزوجين وتغيير مواقفها من الأطفال. (إن الأسرة في حاجة إلى أن تشكل كلا، لسنا كلابا، واحد يذهب إلى اليمين والآخر إلى اليسار[xviii][xviii]، وحتى في الأسر التركية، وبالخصوص تلك التي عرفت التحضر قبل الهجرة واستقرت في باريس، فالزوجان يأخذان الأهمية التي حرمتها الأسرة الأبوية.
«أكيد أننا نتحدث هنا مع زوجي عن كل شيء، ونأخذ قرارا مشتركا، أما في تركيا فيوجد الكبار ولا يمكن أن نتصرف كما نريد، ونحن هنا أحسن وأكثر هناء».ك.ص134. إن الترابط الأكبر للزوجين تتبعه علاقة حميمية بين الأطفال: «في القرية لا يمكننا أن نحبهم، ولا أن ندللهم كما نريد أمام أبينا، هنا يمكن أن نحب الأطفال كما نريد:”.ك.ص148” وبصفة مجملة، فالأباء المهاجرون، الأتراك والإيطاليون، يولون أهمية لتعليم أبنائهم، كما يقررون إقامتهم في بلادهم الأصلية، أو في فرنسا، باسم مستقبلهم. كما أن جميع أسر المهاجرين الإيطاليين يولون أهمية لتثقيف بناتهم أكثر من الأبناء الذكور، ويرفضون بكل وقاحة فكرة أن الابن يمكن أن يتخلى عن دراسته ليخصص ما له لأخواته. أضف إلى ذلك، أن المسار الاجتماعي الذي تبع الهجرة وشكل الإقامة في فرنسا،أي تاريخ الروابط التي أسست بين المجتمع الأصلي والنماذج الغربية، شكل عاملا للامساواة المستحدثة في الأنظمة الأسرية، المهاجرون الإيطاليون ينتمي إلى التقاليد الغربية، أكثر من ذلك، فإن العلاقات التي يحافظون عليها في مجتمع الهجرة تمزج فكرة العدالة في الغنى وفي الحداثة بين مجتمع الإقامة والبلاد الأصلية. إنه السبب الذي يلحون بموجبه منذ مدة، على التطور الإيجابي للمجتمع الذي هاجروا إليه، مع تأكيدهم على كرامتهم الخاصة ومنح ذهابهم ذاك اختيارا عقلانيا.
قبل أن نأتي، كان البؤس في إيطاليا، أما الآن فالأمر ليس كذلك، الآن الحال أحسن. فالآن يوجد العمل، والآن يعيش الناس أفضل هناك (..) إلى جانب ما عرفته (..) الآن هناك تطور، لم أعد إلى وطني، لأنه تغير إلى درجة عالية.
أما بالنسبة للأتراك، فإنهم يحافظون على ذكرى ولو أنها غير معبر عنها في عز الإمبراطورية: إن ذاكرتهم الجماعية المشيدة في ضوء تاريخ الإمبراطورية العثمانية، حافظت على ذكرى الشعب التركي العثماني مثلما حافظت عليها الكتب المدرسية والقصائد الشعرية والوعي الذاتي[xix][xix]، إنهم يحافظون كذلك على ذكرى أو ذاكرة (كما يسميه برنار لفيس بإعادة تذكر التاريخ (history remembered) في إرادة في التحديث لم تفرض مباشرة من طرف قوة غربية كما هو الشأن بالنسبة الوضعية الاستعمارية، وإنما فرضت بمبادرة من حكامهم (مصطفى كمال)، تحت التأثير غير المباشر للنماذج الغربية، في اتصال تاريخي وسكاني[xx][xx]. تفسر هذه الذاكرة بدون شك غياب العلاقات الموضوعية، وتفسر الاحتقار البارز للسكان المسلمين الكثيرين الآخرين في فرنسا، وهم المغاربيون، فرغم مرجعية الإسلام الثابتة في أقوال المهاجر التركي، فإنها تفسر العلاقة المبهمة التي يحافظ عليها المهاجرون في مجتمع الهجرة. من جهة، إنها ميزة لمجموعات أقلية: الجاذبية بمراعاة الحداثة وإدانة سلوكيات الفرنسيين والمهاجرين الآخرين. وهذه الإدانة مفسرة بالتفوق الأخلاقي والديني للإسلام. يعرف أن أقليات سكانية تعوض نقصها العلمي بالاستناد إلى التفوق الأخلاقي. بنفس الطريقة، فالماضي الاستعماري بعدم مساواته الجوهرية بين المجموعة المستعمرة والمجموعة المستعمرة، استمر في تحديد أفق العلاقات بين الجزائريين والفرنسيين، وبقي الالتقاء بين المهاجرين وبلد الهجرة مرسوما بما سميته سابقا “باللاوعي التاريخي”[xxi][xxi]. لا تكفي ملاحظة الأشكال المختلفة للترميق الثقافي الذي ينكب عليه المهاجرون، وكأن الأمر يتعلق بسياق وحيد متقدم تقريبا، إنما توجد حدود لمثاقفة المهاجرين، وحتى بالنسبة للأسر الأكثر “عصرنة”: فهذا الحد هو الذي يجب الآن تحديده.
النــواة الصلـــبة
إن كل ثقافة معطاة في الواقع هي نتيجة لاحتكاكات مع العالم الخارجي، ومن خلال هذه الاحتكاكات نفسها تتأكد الهوية كأفق، ولا يمكن تحديدها إلا كإبداع مستمر. فالثقافة لا يمكن تصورها إلا كشرط ونتيجة للفعل الاجتماعي والتفاعلات مع المجتمع ككل. ومن خلال هذه الاحتكاكات القارة ـالتي تلخص فيها الظواهر المحللة من طرف الانتربولوجيين في مصطلحات: الاقتباسات، والنسيان، وإعادة تفسير العناصر الخاصةـ تشكل الثقافة نظاما ليس بالمعنى الضيق للمصطلح، بل بناء أو نشاطا يجب أن يحلل في مصطحات إعادة التفسيرات الثقافية. والحالة هذه، يظهر أن مختلف عناصر نظام ثقافي قابلة للتداول بطريقة غير متساوية في السياقات التثاقفية مع المجتمع ككل. إذ يمكن أن تنقل بعض السمات من طرف شخص ما بدون إعادة النظر في هويته الباطنية، بينما تفرض سمات أخرى إعادة النظر هذه.
أصبح تقريبا الأطفال المهاجرون علماء اجتماع بسبب موقعهم بين ثقافتين، حيث أخذوا وعيا بهذا التمييز بين ما يمكن تسميته بالنواة الصلبة لثقافة المهاجر وبين ما هو نتيجة للتثاقف؛ فالفتيات الحركيات اللواتي تربين على مسارهن الخاص بهن، لاسيما في ما يتعلق بزواجهن المستقبلي يعتبرن نتيجة لنموذج سوسيولوجي؛ يلاحظ، وبكل تأكيد، رغم الحكم السلبي الذي يحملنه حول العادات الجزائرية الموروثة عن التنشئة الاجتماعية الأسرية، أنهن يتزوجن بالشاب المختار من قبل العائلة، نعم ما يفعل لا يمكن أن يتلخص منها. وتعني هذه النواة الثقافية الصلبة التي، وباسم القيم “الحديثة” المنقولة من المدرسة، يحكمن أنهن “تجاوزن”[xxii][xxii] لكن يحترمن في سلوكهن هذا المعبر عنه بهذه الصيغة، والذي شعر به “كثقل”، هو هذا التصور الأخلاقي المحفوظ منذ الطفولة الأولى من طرف العلاقات بين الآباء ـوخصوصا الأمـ والطفل. عبر هذه العلاقات الحميمية في معناها الحقيقي المدمجة في الفرد تنقل الأخلاق أي نسق من معايير السلوكيات المحدد بالسن والجنس والوضعية الزوجية حيث تشكل الأنظمة الغذائية (وبصورة جد ثانوية بالنسبة لجيل المهاجرة) تعبيرا ذا امتياز، لذلك فالمهاجرون الأتراك، وباسم تفوق قيمهم الأخلاقية، يؤكدون عزمهم في أن يبقى أطفالهم أتراكا يتقوون حين يفرضون عليهم التصور التقليدي للدورين الجنسيين واحترام القوانين الغذائية، وبالأخص القانونين اللذين لهما قوة رمزية: عدم استهلاك لحم الخنزير والكحول.
«تحدثت له عن تركيا، تحدثت له عن الحياة هناك، عن نظام الأكل، لا للحم الخنزير، ولا للحم الفرس، ولا للكحول، وأوضحت له عادات الأتراك »ر.ك,ص150”.
إن السوسيولوجيا الساذجة تتعرى في هذا الظرف واضحة، ويمكن أن يذكر، من جهة، أن اليهود الذين حافظوا على هوية مميزة، عبر عصور تاريخ متزعزع، كانوا دائما يبذلون جهودا للحفاظ على مقاييس أخلاقية معينة وأنظمة غذائية للحلال.[xxiii][xxiii]
لقد مر شرف الرجل، منذ عصور في الشعوب المتوسطية، التي تشكل أغلبية العمال المهاجرين، من السلوك الجنسي للمرء المتعلق بأمه أو زوجته أو ابنته أو أخته، بعبارة أخرى أن التنشئة الاجتماعية أحيانا أكثر ودية وأكثر مهارة سياسية تتضمن بشكل ضروري تعارض مجال الرجل “الخارجي” عن مجال المرأة “الداخلي” ، إنه اختلاف في السلوكيات وانقسام في العمل.[xxiv][xxiv]
«نحن أتراك ، لا يمكن أن تكون صداقة بين الفتاة والفتى، يجب أن يعرفا الاختلاف (بين الفرنسيين والأتراك)، لا يجب للفتاة أن تذهب إلى المسبح، ولا يجب أن ترتدي زي السباحة “ر.ك,ص160”. «أحرم على ابنتي الخروج، وكما أمنعها من أن تشاهد بعض الأفلام في التلفزة، وأن يكون لها أصدقاء هنا، وأن ترتدي كالفرنسيين؛ و بهذا فلن تجد مشكلة في تركيا لأنها تربت من خلال ثقافة تركية »(ر.ك.ص171). أصبحت النساء كذلك يحترمن هذه المقاييس حين تربيتهن لبناتهن وأبنائهن مراعاة لأدوارهن التقليدية. أعلمها (ابنتها) لتقوم بالأعمال المنْزلية، يجب إعدادها لأسرة طيبة، ليس لها حق في أن تخرج لوحدها بل يلزم أن ترافق بأخيها “ر.ك.ص”150.
أما بالنسبة للابن “فيجب أن يكون حرا مثل أبيه ” إنه تكون تكوينا تقليديا، لإدراك الدورين الجنسيين، اللذين من خلالهما يحاول المهاجر إبلاغ أبنائه النواة الصلبة لثقافته الخاصة. إنه من جهة أخرى، السبب الذي بموجبه تنكشف الصراعات بين الجنسين، وداخل المجموعة الأسرية كعاملين ومؤشرين ذا امتياز على الصراعات بين الثقافات.
إن ابنة المهاجر الجزائري، حين وصفها لتطور أسرتها في فرنسا، كانت تعي أن التمزيق الأساسي ناتج أساسا من إعادة النظر هذه للدورين الأسريين. إن الأهم في العائلات الجزائرية، هو الابن، لكن هؤلاء (الأبناء) الآن هم أنفسهم لا يجلبون أو يجلبون أقل من الفتيات، هذا معطى للتفكير[xxv][xxv]، وبعيدا أكثر يتم استدعاء ما هو معاناة مستمرة للأب:
«إن الأب الذي يحسب نفسه أن(وجوده) ضروري ـما دام هناكـ ليعيش أطفاله حتى وإن كانوا يعملون، وهذا ما قلناه وادلينا بحجة وبرهان بأن (وجوده) ليس ضروريا، وبأننا لسنا في حاجة إليه[xxvi][xxvi]».
«عندما يعلو عليهم تماما، يدوسهم كما تقول، وكذلك حين يكونون في الخارج، خارج منازلهم وخارج أنفسهم، لكن حين يكون مع أطفاله أفترض أن هذا لا يطاق[xxvii][xxvii]».
إن إعادة النظر في تفوق الأب تكون مؤثرة، لا سيما وان الفتيات المهاجرات هن أكثر حساسية من بقية أفراد الأسرة لتبني الاستهلاكات الخارجية المتحضرة والدالة على الحداثة (ألبسة، عطور، الخ)، وكذا ولوجهن سوق العمل (بائعات، مستخدمات مؤهلات، بدون احتساب العدد الضئيل منهن الذي يلج التعليم العالي). إنها التجربة نفسها التي عرفتها المهاجرات الفرنسيات المنحدرات من طبقة الفلاحين، حيث زعزعت إقامتهن في الوسط الحضري النظام الإنتاجي لمجموعة الفلاحين[xxviii][xxviii]. عبر إعادة النظر هذه لدور الأب، المحتمل لإدارة الأخلاق ومسؤولية الأسرة، طرح للبحث ثانية كل من النظام الوهمي المتعارض كليا حسب تعبير ايفانز بريتشارد بين الجنسين، وكل من التصور والإدراك للواقع الاجتماعي، وكل من النواة الصلبة لنظام ثقافي.
إن الارتباط بالأنظمة الغذائية الذي يظهره كل المهاجرين[xxix][xxix]، يأتي أيضا من ذلك الإعداد المطبخي الذي هو في مجتمعاتنا قسم متمم لدور الأم، فلم يفهم الارتباط الذي يظهره المهاجرون، وحتى أبناء المهاجرين الإيطاليين ـالمشاركين من جهة أخرى كليا في المجتمع الفرنسيـ بالنسبة لبعض مظاهر المطبخ الإيطالي إذا تنوسي دور الأم التام عبر التصنيع الاستهلاك الأسري وتقديم المعكرونات أيام العيد، وبشكل معين كل التنظيم للعالم الإيطالي الذي يعبر عن نفسه. إن الأحاسيس الذوقية (التي هي في نفس الوقت لمسية وشمية) الجاهزة طوال الحياة الخاصة للطفولة الأولى، مرغوب فيها أكثر من أحاسيس أخرى، كتعابِـير مفضلة للعودة إلى الذات، حيث حرم المهاجرين الأتراك بشكل متحمس على أبنائهم استهلاك لحم الخنزير، وهذا يؤدي بهم إلى رفض المنادمة والمؤاكلة العادية (تحريم التردد على مطعم المدرسة أو أن يكونوا مستضافين من طرف الأسر الفرنسية). إنه إذن مجموع التنظيم الخلقي، الذي هو أيضا تنظيم اجتماعي للإسلامي التركي، الذي يحاول المهاجرون نقله إلى التقليدية، يرافق حركات مطالبة بالإقليمية أو القومية، من خلالها يبرر المسؤولون على هذا السلوك بتأكيد الهوية، إن عموم المطبخ والذوق واللاذوق الغذائيين اللذين يمكن بموجبهما أن نرى إحدى أبعاد التنظيم الاجتماعي المميز لثقافتهما هو نتيجة لهذا النقل من الأم إلى الطفل.”إن مطبخ مجتمع ما هو لغة تترجم عبرها بطريقة غير واعية بنية، بدون معرفة زائدة، ينقاد المطبخ نفسه إلى تعرية تناقضات المجتمع”[xxx][xxx] إذا كان ذاك يكشف عن “التأملات الأكثر تجريدا للفكر الأسطوري”[xxxi][xxxi]، فإنه يؤكد على تنظيم العالم الذي يشكل فيه الانقسام حسب الجنس أحد المبادئ. إن تنظيم العالم بالنسبة للمهاجرين هو أولا تنظيم للسلوكيات حسب التشريع الاجتماعي خصوصا ذلك المتعلق بالنساء، وذلك المتعلق بالفتيات الذي يجب أن يحفظ فيه الشرف من طرف الأسرة حتى زواجهن، ثم ذلك المتعلق بالأم “رباط الأسرة” حسب المثال الإيطالي إن وضعية الهجرة، بتقليصها للحياة الاجتماعية الخارجية للأسرة تقوي الروابط التي توحد الأم مع أطفالها، في وضعية تعتبر الخارج أجنبيا ومن هنا التهديد، يمكن أن نرى أن العلاقة المقامة بين الأم وأبنائها تنقل مجموع المعايير الواضحة في شكل أحكام خلقية وتذكيرات فعالة تقريبا. ويساهم الإسلام في حالة العمال الأتراك بنظام شرح وتعليل على نقل المعايير السلوكية المتناسبة مع المجتمع الأصلي.
وليس صدفة، إذا استشهد عالم نفساني بحالة أحد مرضاه وهو عامل جزائري عرف اضطرابا عقليا بعد أكثر من عشرين سنة من الحضور والعمل بفرنسا بدون مشكلة التبني واضحة بين نشاط مهني متصل وحياة عائلية هادئة. وفي هذا الإطار يمكن معاينة الحالة التي مر منها أطفاله البالغين ـالحالة المادية بالنسبة للدراسة والنشاط المهني لبناته (عكس التصور التقليدي)، والخدمة العسكرية لأبنائه الذكور (رمزا على فرنسيتهم) وإتمام الزواج بالنسبة لهؤلاء وأولائك باستقلال عن المبادئ التي تفرضها التقاليد المؤسسة على التراضي بين عائلتين وليس حرية الاختيار بين شخصين ـتأخذ بالأساس “النواة الصلبة” الثقافية كما أسستها التنشئة الاجتماعية للطفولة الأولى في المجتمع الجزائري قبل الهجرة.[xxxii][xxxii]
إن التمييز بين النواة ومحيط نسق ثقافي ليس معطى كلا، بل يتعلق بالثقافات الأصلية والظروف التاريخية التي تؤدي بالمجموعة إلى أخذ الوعي بنفسها وبالتالي بحدودها. كذلك يمكن ألا يكون العمل أو المشاركة في الإنتاج مرتبطا مباشرة بتصور الدورين الجنسيين والأسريين الذي يبيح كما هو الشأن بالنسبة للمهاجرين الإيطاليين والأتراك انقساما بين الحياة العملية والحياة الأسرية حيث يوجد فيهما التصور التقليدي محفوظا بالأساس. وإن الرابط عند بعض المجموعات بين الاثنين يكون محصورا أكثر، بحيث إن الفرد يرفض تغيير حياة العمل التي هي الصق بالدورين الجنسيين على ضوء هذه العلاقات الاجتماعية. حلل ستيف ايران الزحف الكبير الفلاحي البور نحو الشمال الرافضين العمل في المناجم والمعامل الصناعية التي ادخلها المعمرون الإنجليز، حيث فضل البوريون أن يهجروا جميع غلتهم للحفاظ على الذي ليس نشاطا مهنيا فقط (العمل الأرضي) ولا لهجة (الأفريقانية) بل للحفاظ على هوية، أي تصور للدورين الجنسيين، والخلق وإدراك حسي للعالم، المعبر عنهما في العمل في الأرض المرتبط بشكل الحياة الأسرية.[xxxiii][xxxiii]
ينْزع المجتمع الصناعي في ذاته إلى الفصل وبأكبر عدد مكان الإنتاج عن مكان الممكن، وفصل الحياة الخاصة عن حياة العمل في الحدود التي يبيح فيها (يشجع أحيانا) فصل تصور الدورين الجنسيين عن النشاط المهني (بالنسبة للبوريين إن هذا الفصل نفسه هو الذي يشكل موضوع الصراع). يفهم على أن الهجرة من العالم القروي إلى العالم الصناعي المتحضر هي سبب هذا الصراع الحاد (وهو أكثر حدة بالنسبة لمسؤول عن استثمار فلاحي منه بالنسبة للعمال المزارعين)، بحيث تفرض هذه الهجرة قطيعة في النظام الرمزي الذي يقابل عالم المرأة الداخلي بعالم الرجل الخارجي ويقطع تلك الصيرورة “الطبيعة” التي أسست في العالم القروي بين الانقسام الجنسي وتقسيم العمل.
وبالمقابل، يمثل المرور من بلد إلى آخر، بالنسبة لبعض موجات المهاجرة، صراعا قابلا للتبادل بشكل أفضل حين كان الفصل بين مكان العمل على سبيل المثال ومكان السكن (مع كل ما يستتبعه هذا الفصل في التنظيم الأسري) أمرا مقررا قبل الهجرة. وفي بعض الحالات تكون أول هجرة قد أدت إلى تكوين سكان مسوا بأشكال الحياة “الحديثة”[xxxiv][xxxiv]، وهذه الهجرة هي من قرية نحو المدينة في بلد (المهاجرين) الأصلي، وفي حالات أخرى يخلق المهاجرون في مجتمع المهاجرة عالما أو وحدة إنتاج يعيد جزئيا أو كليا الوحدة الأسرية، كما هو الحال بالنسبة للمشروعات الصغيرة في الدروب الضيقة في باريس، التي أنشأها المهاجرون اليهود من أصل أوربا الوسطى في ما بين الحربين، وأنشأها الأتراك منذ سنة 1970.
يتكون أغلبية السكان المهاجرين في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، إما من سكان متوسطين (إيطاليين وإسبانيين وبرتغاليين ويوغوسلافيين أو تركيين)، حيث أن تصورهم للعمل كان قريبا بما فيه الكفاية من تصور مجتمع الهجرة، إذ يمكن أن يتم التثاقف في العمل بمختلف أبعاده ـتقرير في الوقت وفي الرتبة أقل كفاية تقنيةـ دون أن يؤدي إلى إعادة النظر في الهوية، وإما لتتكون هذه الأغلبية من سكان عرفوا من خلال الوضعية الاستعمارية أول فرصة للتثاقف، لذلك منح التثاقف المحيطي والحفاظ على النواة الصلبة الثقافية للمهاجرين تبني جزئي لمتطلبات المجتمع الفرنسي. يعرف على سبيل المثال في حالة الهنود الأمريكيين أن تصورهم المختلف للعمل يبقى في هذه النقطة مرتبطا بالهوية الممتزجة فيهم منذ الطفولة الأولى بحيث إن هؤلاء السكان، الذين فرض عليهم العمل على الطريقة الغربية، فضلوا الموت على أن يخضعوا لهذه الطريق
الهـوامـش
[i][i] – الشكل الأكثر تجهيزا والأكثر شهرة هو ذاك الذي نشره : W.W. Rostow dans the stages of economic Geowth: a Non- Communist Manifesto, Cambridge Univ. Press, 1961.
[ii][ii] – عمل معاد لا يتراجع أمام استعمال استفتاء يستجوب فيه الفلاح الأناضولي حول علاقته بوسائل الإعلام ومع العالم السياسي في شكل “إذا كنتم رئيسا للولايات المتحدة …” ك.ل. ليرنر Cl. D. Lerner, the Passing odtraditional Society, Modernizing the Middile East, Glencoe, the Free Press, 1958.
[iii][iii] – حول مجموع هذا الأدب ، أنظر ج. جولدورب J. Goldthorpe, “theories of Industrial Societies”,
Archives européennes de Sociologie, vol. XII, 1971, n? 2, p.263-288, ainsi que S.N. Esenstadt, Tradition, change and Modernity, New York, Wiley, 1973.
[iv][iv]– S.N Eisenstadt, op cit, 262. Voir aussi la bibliographie sur ce thème p. 112-114.
[v][v]– P. Maugué, contre l’Etat- nation, Denoë, 1979, P. 179.
[vi][vi] – هذه التعابير أخذت من G. Michaud, ed, Identités collectives et relations culturelles, Bruxelles,, Complexe,1978,p.179.
[vii][vii]– الأكثر شهرة من هذه الكتب هو كتاب: Glazer et D. Moynihan(eds) , Ethnicity, Theory and Experiences, Cambridg (Mass.) Haverard Unerversity Press, 1975.
[viii][viii] – مصطلحات المهاجرين أو المغتربين في هذه النصوص تعني أناسا ولدوا أو تربوا في بلاد أخرى، وأقاموا في فرنسا وأطفالهم يسمون خلافا لأصول مهاجرين من الجيل الثاني ( بحيث أنهم ليسوا مهاجرين) تربوا بفرنسا. سنتحدث عن أبناء المهاجرين.
[ix][ix]– أمكننا توضيح أن نفس سلوك الهجرة الجزائرية نحو فرنسا يمكن أن يعني حسب مراحل التاريخ الاجتماعي للجزائر، شكل احترام للتقاليد أو إشارة إلى قطيعة مع هذه التقاليد كأول مرحلة مشروع التحديث A. Sayad, “ les trois âges de l’émigration algiriènne” Actes de la recherche en sciences sociales,n? 15, 1977, p. 59-79.
[x][x]– M. Tripier, “ Travailleurs immigrés: pour l’analyse des générations migration” les communautés pertinentes de l’action collective, CNAM, 1981, p.5-19.
[xi][xi]– من المسلم به أن هذا التمييز نموذج مثالي، وان كثيرا من الباحثين أجهدوا أنفسهم للتوفيق بين وجهات النظر هذه، وعلى الخصوص وجهة النظر الثانية والثالثة.
[xii][xii]– لا نعثر هنا على تحليل لتركيب ثقافي كما هو وارد في نصوص أخرى:
D. Schnapper, “Centralisme et fédéralisme culturelle: les émigrés italiens en France et aux Etats- unis”, Annales ESC, Octobre1974, p.1141-1159, et “ tradition culturelle et appartenance sociale: émigrés italiens et migrants Français dans la région parisiènne”, Revue française de sociologie de 1976 p. 485-498 les analyses concernant les travailleurs turcs reposent particulièrement sur les inforrmations fournies par deux enquêtes: R. Kastryano, Espaces et Migrations, Influence de l’organisation sociale des familles immigrées turques sur la socialisation des enfants. Paris thèse
de doctorat de III cycle de l’EHESS, 1983, et M. Cetinsoy, “ les turcs à Stuttgrat, évolution et adaptation d’une communauté étrangère dans une grande agglomération allemande”, Greco13, Recherche sur les migration internationaales, 1982, 4/5, Paris, CNRS.
[xiii][xiii] – Sayad A., “ la naturalisation, ses conditions sociales et sa signification chez les immigrés algériens” Greco13, Recherche sur les migration internationaales, 1982, 4/5, Paris, CNRS.
[xiv][xiv] – F. Alberoni et G. Baglioni, L’integrazione dell’immigrato nella società industriale, Bologne, II Mulino, 1965.
[xv][xv]– كشفت الإحصاءات في 1975 أن مجموع نشاط المهاجرات يصل إلى1 ,37 % ( بالمقابل 50% للنساء الفرنسيات) لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار طبعا أهمية النشاط المنزلي ( بما في ذلك رعاية الأطفال وأعمال الخياطة) غير المصرح به. تبقى النسبة النشيطة للمغاربيين مع ذلك متحفظة أكثر من نسبة البرتغاليين أو الأسبانيين.
[xvi][xvi]– O. Paterson, “ The Black Community : Is there a Future?” in seymour Martin Lipset (ed). The third Century, America as a post- Industrial Society, Hoover Institution press,1979. P. 269-270.
[xvii][xvii]– J. Barou, “ L’insertion urbaine des étrangers dans une ville moyenne”, Greco 13, Recherches sur les migrations Internationales, 1982,2,P. 16-28.
[xviii][xviii]– سنجد تحليلا لعلاقة الإيطاليين ببناء المنزل في د. شنبر تقاليد ثقافية، مقال مذكور، ص، 480.
[xix][xix] – C. Bretelle ET C. Callier- Boisvert, “ Portuguese Immigrarts In France: Familial and Social Networks and the structuring of Community”, Studi emigrazione, n° 46, juin 1977.
[xx][xx]– D. Schnapper, “ centralisme…”, art. Cite, p. 1150.
[xxi][xxi] – B. Lewis, History Remembered, Rediscovered, Invented princeton University press, 1975, p.38.
[xxii][xxii]– صنف كذلك أ.س بلاك تركيا وروسيا، واليابان والصين وايران وأفغانستان وأثيوبيا وتايلاند كتجسيد لوجهة النظر السياسية، كنوع معين من التحديث.
[xxiii][xxiii] – د. شنبر ” المركزية…” م.م.ص 1159.
[xxiv][xxiv]– مصطلح ترميق ثقافي يبدو لي أفضل من مصطلح تهجين ثقافي المستعمل دائما، لأنه أكثر تخصيصا : كل ثقافة هي نتيجة تهجين ثقافي.
[xxv][xxv]– هذه التحاليل تقوم على أعمال كلود دولوناي المخصصة لمشاكل هويات أطفال الحركيين ( بحث في طريق) وحول قراءة دبلوم الدراسات لمحمد حامومو.
[xxvi][xxvi]– أول صراع قوي تفجر في 1967 في مسكن بشارع شارون، حين كشف المسلمون الأفارقة أن الدجاج كان يقتل بالكهرباء بدل من أن يذبح على نحو شعائري.
[xxvii][xxvii] – J. Pitt- Rivers, Anthropologie de l’honneur, la mésaventure de Sichem, Paris, Sycomore, 1983 (1 éd. En langue anglaise 1977).
[xxviii][xxviii]– Sayad A., “ les enfants illigitimes”, Actes de la recherche en sciences sociales, n° 26/26, mars- avril 1979, p.122.
[xxix][xxix] – Ibid. n° 25,p.80.
[xxx][xxx]– Sayad A., “ les enfants illigitimes”, Actes de la recherche en sciences sociales, n° 26/26, mars- avril 1979, p.122.
[xxxi][xxxi] – P. Bourdieu, “ Célibat et condition paysanne”, Etudes rurales, n° 5/6, avril- sept, 1962, p. 32-136.
[xxxii][xxxii]– أنظر د. شنبر « المركزية…م.م.ص 1151.
[xxxiii][xxxiii] – CI. Lévi- Strauss; l’Origine des manières de table, Plon, 1967. P. 411. Voir aussi Mary Douglas. De la souillure, Paris, Maspero; 1971 (purity and Danger, Londres, Rouledge and kegan, 1967).
[xxxiv][xxxiv]– De la souillure, op. Cit. P. 13.