التمثل المأساوي للهوية

ظل  سؤال الهوية، ولا يزال موضوع انشغالات فلسفية وسياسية وثقافية. ومداخلتي تندرج ضمن النقاش العام الذي تعيشه المنطقة المغاربية عموما والجزائر بشكل خاص؛ كما أن مرماي، من موقعي كصحفي وكباحث، هو صياغة أسئلة جديدة وزوايا نظر مختلفة، ومحاولة الخروج من النمطيات التي ظلت تهيمن على فهمنا للأشياء، وبالتالي أعاقت قدرتنا على ابتكار البدائل والحلول. وعلى مدى خمسة عقود من الاستقلال، كيف ظل الجزائري ينظر إلى ذاته الجمعية؟ ولماذا عجز في تمثله لانتماءاته المتعددة؟ وكيف استغل النظام السياسي، ومن حوله أصحاب المصالح، هذه الأزمة، في المتاجرة بها، وذلك بالتجفيف الممنهج للوسط السياسي والثقافي من الروح الديمقراطية؟ وانطلاقا من التعريف التالي الذي يرى أن ” التمثلات هي الكيفية التي يوظف بها الفرد بصورة شخصية معلوماته السابقة لمواجهة مشكل معين خلال وضعية معينة”؛ فإن التمثلات تتنوع بتنوع الوسط الذي ينتمي إليه الفرد، حيث تختلف التمثلات من الوسط القروي إلى الوسط الحضري، كما يمكن أن تختلف باختلاف المنشأ الاجتماعي للأفراد وانتماءاتهم الأسرية والسياسية. على المستوى البيداغوجي، وبحثا عن أنجع الطرق والمناهج التعليمية والتربوية وكل مايتعلق بالعملية التربوية، فقد ظل البحث المعرفي في المجال البيداغوجي والديداكتيك، يعمل على ابتكار بدائل تساعد المتعلم على تمثل المعارف بطريقة تؤهله للاضطلاع بدوره في الحياة كإنسان وكمواطن قادر على فهم الحياة بشكل أفضل. وبما أن التمثل يختلف من شخص إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فإن هذا الاختلاف، ينعكس بدوره، على نظرتنا لذاتنا وللآخر؛ حيث هذه النظرة تفرض علينا أن نطرح مسألة الهوية.إن الهوية هي مجمل السمات التي تميـّز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها. ولإن الهوية ليست معطى ناجزا، فإن الذات (الفردية والجماعية) في علاقتها بالآخر، فإما أنها تؤسس هذه العلاقة على مبدأ الاحترام والتفهم، وبالتالي تكون علاقة انفتاح وتواصل وتعاون؛ أو على مبدأ السيطرة والاستغلال، وهذا مايقود في نهاية المطاف هذه الذات إلى انعزالها أو خضوعها أو تلاشيها.

إن مشكل أي مجتمع ناجم عن قصور نخبته، وإن كل المشاكل التي تتفاقم، وبالتالي تتحول إلى أزمات هي من مسؤولية النخب، وللأسف فإن المجتمع الجزائري كان أرفع من نخبه ومن السياسات التي ظلت تدير شؤونه بشكل متخلف، وأبرز تجليات هذا التخلف، انعدام قنوات الحوار والتواصل بين نخبه بمختلف نزعاتها خصوصا المرتبطة عضويا بعصب سياسيوية: العروبية، الفرنكفونية، الإسلامية، والأمازيغية، وقد انكفأت كل نخبة على نفسها في عزلة إلى درجة التعفن، كان من نتائجها المدمرة، ذلك الاستغلال المقيت للهوية. إن التعثرات والانحرافات والانزلاقات التي نجمت عن النزعات السياسوية و الثقافوية ترجمت (لا تارخية ) التمثل للذات الجزائرية لدى دعاة العروبة ودعاة المزوغة ودعاة الإسلام السياسي على حد سواء .

بموازاة المثقفين الذين كانوا على ارتباط بالأيديولوجية البعثية والإخوانية، أفرزت الجزائر الكولونيالية نخبة من المثقفين الجزائريين الذين تعاطوا الكتابة باللغة الفرنسية، وقد احتدم الجدال حول ظاهرة التيار الفرنكفوني غير أن الحديث عن هذا التيار كان يقتضي الحديث عن تيارين آخرين: الفرنكوفوبي والفرنكوفيلي لكن ولعوامل عديدة أهملت الحقول المعرفية مقاربة هذه الظاهرة مثلما أهملت ظاهرة العروبيين والإسلاميين، وهذا الإهمال ساهم في تفكيك عرى التواصل بين النخب الثقافية التي تركت مسألة الهوية نهبا للاستغلال السياسوي والمافيوي.
أبرز المثقفين الذين تعاطوا الكتابة باللغة الفرنسية ينحدرون من منطقة القبائل، ومن بين الذين ذاع صيتهم تمثيلا لا حصرا، الروائي والمسرحي كاتب ياسين والمطرب معطوب الوناس، ولأن القبائلي يعتبر نفسه (في الجزائر) الوريث الشرعي لتراث تامزغا فقد ظل يعمل دون هوادة على ربط حاضره ومستقبله بالصباح الأمازيغي وقد اكتست هذه النزعة طابعا متطرفا إزاء نزعة لا تقل عنها تطرفا والمتمثلة في النزعة العروبية. لم يتردد كاتب ياسين و معطوب الوناس في إعلاء نزعتهما المعادية للعروبة و الإسلام. بل يمكن القول أن كتاب “المتمرد” لمعطوب الوناس كان تجليا لهذه النزعة.
لقد انكسرت صورة العروبة في مشاعر القبائلي وفي وعيه ومخياله، وهنا تكمن الخطورة، لكن السؤال الذي يجب طرحه، من المسؤول عن هذا التمثل المأساوي للهوية ؟ ما هي الأسباب التي عمقت في مشاعر القبائلي روح العداء لكل ما هو عربي ؟
إن المسؤولية مشتركة، فالأنا المتضخمة حتما يكون مآلها الانفجار. لقد ظل الخطاب الوطني ينفخ في الأنا الجزائرية، مثلما نفخ الخطاب القومي في الأنا العروبية و الشأن نفسه في الخطاب الأصولي مع الأنا الإسلامية وهذا ما قاد بطبيعة الحال دعاة المزوغة إلى نفخ الأنا الأمازيغية. إن الوطن كل لايتجزأ، المزوغة والعروبة والإسلام إرث مشترك لكل الجزائريين، ولا يحق لشخص أو لجهة أو حزب أن يحتكر خصوصية من هذه الخصوصيات، أو يتاجر بها، أو يناصبها العداء؟ ومتى يؤمن الجزائري أنه سليل انتماءات متعددة، وأن الأمازيغ والعرب الذين التقوا في ساحة المعركة منذ قرون، وانتقلوا إلى التعايش بعد الاقتتال، حيث انساب الدم المشترك في عروق الأجيال اللاحقة هم أسلافه، وأن أي نظرة تمييزية بينهما ستسحبه من زمنه، بوصف هذا الزمن خرج من تلك الرحم؛ ويبقى التحدي، هو كيف نجعل من هذه المكونات عوامل قوة وتأهيل واستقرار.